-خاص بصحيفة آفاق حرة
عندما كنت في الابتدائية كان حب القراءة يسري بشرياني مسرى الدم، ويأخذ منحى آخر نحو النبض، ولكنه لم يأخذ الشكل الجدي للقراءة؛ لتجمع الكثير من الظروف ااتي كانت تقف كحاجز يحول دون مسير القراءة في طريقها الصحيح، كعدم وجود مكتبات عامة في حيّنا أو مكتبة خاصة في بيتنا، كنت أعشق قصص المكتبة الخضراء، وقصص أخرى تروى على لسان الحيوان، كأرنوب الذكي ، وعيد ميلاد دبدوب، والفأر والجارة، وخداع الثعلب وحديقة الحيوانات وغيرها.
وعند عودتي من المدرسة، لم يلفت انتباهي بائع الحلوى ، ولا محل بيع ألعاب الأطفال، بقدر ما كان يلفت انتباهي مكتبة صغيرة في طريق عودتي من المدرسة، قد تكومت بها الكتب بشكل عشوائي، ولا تظهر أن صاحبها يهتم بها أو يمسح الغبار عن رفوفها المُكدّسة بالكتب، وقد عرض صاحب المكتبة القليل من القصص التي أعشقها على الواجهة الزجاجية،
كنت كل يوم أتفحص العناوين من وراء الزجاج حتى حفظت معظمها. وأخيرا أصبحت لدي الجرأة؛ كي ادخل المكتبة، وأطلب من البائع أن يأجرني بعض القصص بمبلغ كنت أوفره من مصروفي اليومي، ولشدة ما كان حزني وتأثري عندما رفض ذلك العرض وبشدة.
ولكن ذلك الموقف لم يمنعني من حب القراءة والتعلق بها، حتى جاء ذاك اليوم؛ عندما كنت بالمدرسة الإبتدائية العليا ، واستضافت المدرسة دار نشر معروفة لمعرض كتاب سيقام في المكتبة، كم كانت فرحتي بذلك النشاط، وكأنهم سيقيمون حفلة لمطرب مشهور، وهو ما كان من ضمن اهتمام الفتيات في تلك الفترة العمرية.
وما أن اختارتني المعلمة؛ لأكون إحدى الطالبات اللواتي سوف يتواجدن في حصص الفراغ في المعرض، وأحظى بفرصة ترتيب الكتب والإطلاع عليها، كوني كنت مغرمة بتلك الفترة بالقصص البوليسية لـ(أجاثا كريستي) و(شارلك هولمز)،حتى طار قلبي من الفرح، لأنني سأكون في مكاني الصحيح، ولم يعرف أحد حينها كم كانت الفرحة تغمرني عندما تنتهي الحصة وأذهب لأقف في زاوية المعرض، التي كنت مسؤولة عنها، وهي الزاوية الثقافية، متأهبة لأي سؤال من زوار المعرض.
كنت أتمنى.. لو أنني أبتلع كل تلك الكتب قراءة وتمحيصًا. إن الشغف بالقراءة والأدب لم يكن وليد اللحظة، ولم يكن وليد المجلات الإلكترونية، وبعض الشهادات التكريمية.
إنه جنين نما وترعرع داخل جوانحي وقلبي، لأنني لم أترك فرصة تنتابني فيها مشاعر وإلهامات أدبية إلا كنت أدونها في دفتري الصغير، وأحاول بشتى الطرق أن أبعده عن كل العيون الفضولية، لأنني أعتبره من أغلى ممتلكاتي، ولا أريد من أحد أن يطلع على سري، حتى أصبحت هناك فرصة أضاءت أمامي طريقا قد امتلأ زهورا وفُرش ياسمينا ، وهو الإشتراك بقصة قصيرة عن طريق مسابقة المعلم الأديب، أرسلت بقصتي الصغيرة التي لم أتوقع أن تلقى كل هذا الاهتمام إلى موقع المسابقة الإلكتروني، لم ألقي بالًا وقتها لموعد إعلان نتائج المسابقة، حتى تحدث إليّ أحدهم بضرورة الحضور إلى موقع الاحتفال الذي قامت به وزارة الثقافة لتكريم كل المشاركين بالمسابقة بحفل بهيج ، والذي زاد من ثقتي بروحي الأديبة، وثقتي بقلمي.
ومن ثم طُبعت قصتي من ضمن كتاب ضم الكثير من النصوص الأدبية الفائزة في تلك المسابقة.
لقد كبر ذاك الجنين بعد العناية والرعاية التي حباني بها الله على شكل أشخاص مخلصين لا يألون جهدًا في دعم المسيرة الأدبية للأمام .
حتى حان في يوم كان انتظاره مشوقًا وهو موعد الولادة الأولى، وقد تمخض عن ذلك وليدي الأول «ربوع ادبية»في العام 2019، و«منخفض جوي» في العام 2020. كانت السعادة تغمرني، وأنا أحتضن كتابي الموسوم باسمي عند عودتي من المكتبة الوطنية لتثبيت رقم الإيداع، وفي عقلي ألف سؤال وسؤال، هل هذا ما كنت أحلم به؟ هل يرضي ذلك شغفي بالكتابة؟ هل اتوقف بعد حصولي على هذا المنتج الأدبي الجديد؟ ظلت الأفكار والأسئلة تعصف بعقلي وأنا على يقين انها فقط البداية.
وما زالت أوراقي والهامات الكتابة تزورني كل يوم ، لأقطف خاطرة من هنا وأبيات شعر من هناك، وكأنني كل يوم في ولادة.
وتستمر الحكاية وتكبر ، لأن هناك الكثير من الأجنّة ما زالت في رحم الإبداع تنمو وتترعرع وتتولاها يد الرحمن بالرعاية والاهتمام.