جَرَحَ الماءُ الرّقراقُ،
مَنابعَ قلبكِ، أمّي…
جرَّحَ نبضُ الماءِ زُهورًا في خدّيْكِ
وجَفَّفَ زَهْرَةَ عُمْري، يا أمّي،
وَمَشَتْ روحي في مَوْكِبِهِ، تَتْلُو أسْفَارًا مِن عُمْرِي.
قدْ رحتُ أُلاعب وَجْهَ الشَّمْسِ،
وطيفَ الغيم،
بضفّة عمري العذبِ
ولمّا بسمةُ روحكِ شفّتْ…
تُبدي سرّ الخلق، بقلبِ الماءِ،
جمعتُ لآلئَ بحرِ الحبِّ
وكنتُ أراقبُ همسةَ يدّكِ… تمنعُني: لا يا ولدي…
لكنّ شعاعًا ملءَ الماء الرّاقص أفسح بالأنوارِ معارج دربي…
لاعَبَ مركبَ عمري يا أمّي!
لم تتركْ أنفاسُ الماءِ المتدفّق في رئتيَّ لصدري أنفاسًا…
لم يمنحني جسدي مجدافا يُوصِلُني لضفاف الماءِ،
ولمْ يمنحني العمرُ جناحًا…
لمْ تنفخ في أشرعتي الرّيحُ
ونشيدُ الرّوح بحنجرة الماء المترقرقِ أغْرَانِي،
ومرافئُ حلمي شدّت مرساتي
وعصا عمري شقّتْ في قلبِ الماء جِراحًا… يا أمّي!
وَتَلَا في قلب الماء بهمسٍ قلبُكِ آيةَ حبٍّ:
يا كبدي،
يا لؤلؤةَ النّبض الخفّاق بصدري…
ضُمَّ لقلبِكَ قلْبي،
فنَخيلُ العمرِ بلا جذعٍ أضْحَى، وبلا رُطبٍ،
إلاّ ما جاد النّبض به، يا عمري…
هزّ إليك بقلبي…
وﭐجْنِ النّورَ، لجنّة خلدٍ يا ولدي…
بسَمَتْ روحي:
أنا أعلمُ، أنّكِ ماءٌ،
أنّكِ همسٌ،
أنّكِ صوتُ الحقّ،
وأنّكِ ترتيلُ الآياتِ، ترانيمُ الأسحار، تهجُّدُ روحي بالصّلوات،
وأنّكِ روضةُ عمري،
نخلةُ روحي تُسْنِدُ أحلامي…
ما كنت لأعلمَ أنّ نداءَ الماءِ سرابٌ يَصْلُبُ حلمي…
يا أمّي!
آهٍ يا أمّي!
شتّت دربُ الماء مسيرَ أبي،
والصّوتُ تفتّتَ حين دعا…
لتُغثْني يا رحمانُ!
فعبدُك لبّى داعيَ أمرِك…
أيقظ فيّ اليُتْمَ،
وسافر يتلو نشيدَ الماءِ
وما أشعلتُ شموعَ الصّبر بقلبي بعدُ…
ومَا زَالَتْ خُطُواتُ القلْب على دَرَجِ الْحُلْمِ المتوهِّج في عمري…
ما زال ربيعًا يمرحُ في أكمام الزّهرِ
وما انْطَوَتِ الأضلاعُ عليه بما يكفي…
مَا وَدَّعَنِي…
وزُلالُ الماءِ طوى عُمْرًا من عمري…
عاد إليكَ على عَرْشِ الأحلامِ،
وخفقةُ قلبي تسنِدُ ظلاّ من ظلّي…
فارحم كبدي
قد جرَّحَ نبضُ الماء منابعَ مائي في أحداقي
يا رحمانُ…
أَغِثْ قلبي.
خَشَعَ الماءُ الرّقراقُ…
وروحي تركضُ نحو بشائرِ نورٍ… يا أمّي!
وجَرَى جسدي
والبردُ يُحاصِرُ نبْضي
ضَمَّ ضُلوعَ أبي،
فتداعى…
ظلاّ منكسِرًا، خفّاقًا
رفرفَ يحميني من بَرْدي…
ألْهَبَ بَرْدِي جمرَةَ أحزانٍ بالقلب…
فكيف يذيبُ ثُلوجا سيّج بردُها زهرةَ عمري…
يا أمّي!
ودَنَتْ غيماتُ الصّبْرِ تُظلّلُ قلبَ أبي الملهوف
ورُوحي تسبقُ غيْمَ الصّبْرِ إليه
تشدّ على يده…
تمتدّ إليه غُصُونا تُسندُ ضعفا طالت رِعشتُه بَرْدي.
وشممْتُ طيُوبَكِ يا أمّي
إذْ فتّحَ دربَ رحيلي نبعُ الماءِ
وبلّل روحي طهرُ يديْكِ
وروحُك جرّحها ملحُ الدّمع المتهاطل ملْءَ الجرحِ،
يغسّلني…
ونثارُ نداه أصاب عيون الخلق فسحّت وابلها
كمنابع غيماتٍ
لمّا فوق الألواح علا جسدي
ومشيتُ بلا قدَمٍ…
ووصايا قلبِك هدهدتي:
نمْ… نمْ… نمْ… يا ولدي
فبعين القلب أظلّل حلمَكَ…
كان كمثلك طفلا يلهو في أمداء العمر…
ويحضن حلمي…
نَمْ… فبقيّة نبضي بيْرقُ نورٍ يُسرجُ تُرْبَكَ…
نمْ… قدْ يُزهر ملحُ العينِ صبرا…
نمْ… نمْ… نمْ…
عينُ الرّحمان ستحرس نومكَ يا… كبدي…
قولي يا أمّي!
كيفَ أكفكفُ دمعي في عينيكِ
وكيفَ أضمّد جرحَكِ…
كيفَ…
فَقَدْ دَقَّتْ أجراسُ الطّينِ
وأُذّن في روحي…
خَشَعَتْ… لبَّتْ… وغَفَتْ…
قولي… يا أمّي…
لؤلؤُ دَمْعِكِ؟!…
كيف أنضّدُه لليالي الوِحشة أقمارا؟
وعلى ألواح الحكمةِ؟!…
كيف أجمِّعُ آيات الماء المتعثّر في طيني
دِيَمًا بسماء الصّبر؟
وماءُ الحكمةِ لمّا أغرقَ طيني
جرّحَ روحَك… يا أمّي…
سكنت روحي
وسجا في قلب التُّربِةِ، بُرعُمُ طيني
يشهدُ آيات الخلقِ المرتدِّ
ويعرُج نحوَكِ يحضُنُ وجهكِ عبر سياج التّربِ…
فديتُكِ أمّي !
أسمعُ صوتَكِ في روحي… حرفا حرفا،
أتهجّى دمعكِ… مثلَ تسابيحِكِ يهمِسُ… يُلهبُ قلب الصّخرِ
ويُزْهِرُ في كفّيكِ دُعاءً يكسر سدّ البَردِ…
يُطرّز بُرْدَ الصّبرِ…
فتهدأُ روحي راضيةً،
وأضمّ ترابا بلّله فيضٌ من نبعكِ يا أمّي.
وهيبة قويّة
كأني أسمعك للمرة الثانية في هذا النص الدرامي الموجع والناجح في آن.. قليلا ما يتأثر الشاعر بنص تأثرا شديدا ويعجب له كثيرا؛ لأن له نظرته الخاصة في الكتابة، ويظل في حالة نقد عميقة حيت يسمع شاعرا آخر.. لكن هنا في هذا النص، لم تسمح لنا وهيبة بمجرد التفكير في النص؛ بل كانت حشرجات روحها هي التي تكتب وتقرأ وتذبحنا من الوريد إلى الوريد..
نص كبير بحجم سنديانة عتيقة، ودراما شعرية فائقة التأثير.. شكرا لك وهيبة على هذا الإبداع الاستثناء.. تقديري بلا حدود