قضى ليلا من اشتاق فجره/ بقلم:يحيى الحمادي

وقـالُوا: قَـضَى لَـيلًا، مَـنِ اشتاقَ فَجرَهُ
ولـــم يَـحـتَـسِب إلا عــلـى اللهِ أَجــرَهُ

ولـــم يُــبـقِ إلَّا اسـمًـا خَـفـيفًا، وكُـنـيَةً
ودُرجًـــا بَــنـاتُ الـفِـكرِ يُـثـقِلنَ ظَـهـرَهُ

وشَــــالًا سَــمـاوِيًّـا قَــديـمًـا، وسَــاعَــةً
سَــمـاوِيَّـةً..، كـــان الـسَّـمـاوِيُّ بَــحـرَهُ

وصـنَّـارةً فــي الــرَّفِّ شـاخَت عَـناكِبٌ
عـلـيها، ومــا زالــت إِلــى الـبَحرِ تَـشرَهُ

ومِـلـحًا عـلـى الأَورَاقِ، حــارُوا بِـأَمـرِهِ
فـقـالوا: كــأنَّ الـبَـحرَ “أَعـطـاهُ عُـمـرَهُ”

وآثـــارَ أَقـــدامٍ عــلـى الـقَـلبِ، حـولَـها
شَــريـطٌ رَمــادِيٌّ سَـعـى الـمَـوتُ إِثــرَهُ

وَحِـيدًا قَـضَى فـي اللَّيلِ.. لا وَدَّعَ ابنَةً
ولا ابـنًـا، ولا أَلـقَـى عـلى الـبابِ عُـذرَهُ

عـلـى وَجـهِـهِ الـمُـصفَرِّ ذِكــرى سَـحابةٍ
تَـلاشَـت كَـمَـاءٍ جَــفَّ، واشـتـاقَ نَـهـرَهُ

هَــوَى.. مـثـلما يَـهوِي إِلـى الـبِئرِ طـائرٌ
جـريـحٌ، رَأى فــي كُــلِّ عَـيـنَينِ أَســرَهُ

وعُـــــوَّادُهُ الآتُـــــونَ بــعــد انـطِـفـائِـهِ
عــلـى آلَـــةٍ حَــدبـاءَ يَـطـوُونَ عَـصـرَهُ

ويَـتـلُـونَ أَبـيـاتًـا مِـــن الـشِّـعـرِ، قـالَـها
عـن المَوتِ إذ يُلقِي على الصَّدرِ صَدرَهُ

وعـن بِـدعَةِ (الطَّائِيِّ) في عَينِ (مادِرٍ)
وعــن جَـدعَـةِ (الـلَّـخْمِيِّ) إِذ رامَ ثَــأرَهُ

وعـن خـاتَمِ (الزّبَّاءِ)، عَن طُولِ شَعرِها
وعـن (أَبـرَشٍ) بِـالطَّستِ أَسـقَتهُ خَمرَهُ

وعن حِكمَةِ (المَجنونِ)، إِذ عاشَ داعِيًا
إِلـيـها، ولــم يَـأخُـذ مِــن الـغَـدرِ حِـذرَهُ

وعـــن لَـيـلَـةٍ تــأتِـي عــلـى إثـــرِ لَـيـلَةٍ
وعــن مَـوكِـبٍ يُـلقِي إلـى الـقاعِ بَـدرَهُ

وقــامُـوا، وقـــد نــادَى مُـنـادٍ عـلـيهِمُو
أَنِ ائـتُـوا بــهِ، فَـالـنَّاسُ يَـبغُونَ طَـمرَهُ

ومِــن دَكَّــةٍ فــي الـرُّكـنِ هَـبُّـوا لِـحَملِهِ
كـمـا يَـحـمِلُ الـصَّـوتُ الـفُجائِيُّ ذُعـرَهُ

وسَـــارُوا بـــهِ مــا بـيـن بــاكٍ ووَاضِــعٍ
عـلـى صَـوتِـهِ الـعـارِي وعَـيـنَيهِ عَـشرَهُ

ثَـمَـانِـيـنَ، أَو تِـسـعِـينَ، ســـارُوا وَرَاءَهُ
إلــى حُـفـرةٍ يَـلـقَى بـها الـغُصنُ جِـذرَهُ

إلـى حـيثُ يُـلقِي الـجِسمُ عِـلَّاتِ قَـلبِهِ
ويُـلـقِي عَـلِـيلُ الـجِسمِ والـقَلبِ دَهـرَهُ

وكـانـوا إذا سـارُوا مِـن الـدَّربِ خُـطوةً
رَأَوا نَـعـشَـهُ يَـسـعَـى إِلـيـهِـم، وقَــبـرَهُ

وإِنْ خُــطـوَةً عـــادُوا أَحَــسُّـوا كَـأنّـهم
عـلى النَّعشِ، والمَنعُوشُ يَجتازُ حَشرَهُ

وإِن أَحـجَـمُوا قـالوا: لـقد طـالَ سَـيرُنا
وُقُـوفًا، ولـم نَـقطَع مِـن الدَّربِ عُشرَهُ!

فـمـا بــالُ هــذا الـمَـيْتِ مــا زال بـيننا
مُـقِـيمًا؟ كــأنَّ الـمَـوتَ لــم يُـنـهِ أَمـرَهُ!

ومـــا بـالُـنـا عِـشـنا ومِـتـنا فـلـم نَـجِـد
كـهذا الـذي نَـمشِي إلـى الـمَوتِ عَـبرَهُ!

لــقـد كــان مَـغـنانا إذا الأَرضُ أَعـوَلَـت
وقـــد كـــان يَـبـكِينا، ويَـقـتاتُ صَـبـرَهُ

وقــد كــان مِـثـلَ الـنَّـاسِ، قَـلبًا وقـالَبًا
ولـكـنّـه -كـالـنَّـاسِ- لـــم يَـنـسَ قَــدرَهُ

كَـأَنَّ الأَسَـى شَـطرٌ مِـن الـشِّعرِ أَخفَقَت
مُـؤَاخـاتُـهُ.. حــتـى رَأى فــيـه شَـطـرَهُ

فــلـم يَـتَّـخِـذ وَجــهًـا جــديـدًا كَـغَـيرِهِ
ولا قـــال مـــا ذَنـبـي، ولا شَــدَّ شَـعـرَهُ

ولا عـــابَ فـــي عَـيـنِ الـمُـعابِينَ رَبَّــهُ
ولا بــاعَ فــي سُــوقِ الـثَّـعابينِ شِـعرَهُ

ومـاذا مِـن الإِنـسانِ يَـبقَى سِوَى اسمِهِ
وأَشــعــارِهِ الــلَّائــي يُــجَــدِّدنَ ذِكـــرَهُ

إذا كـــان بَــيـعُ الـشِّـعـرِ لِـلـفَـقرِ دافِـعًـا
فـكـم يَـقبضُ الـمُضطَرُّ إن بـاعَ فَـقرَهُ؟

لـقـد كـان مِـلءَ الـعَينِ والـسَّمعِ شَـوقُهُ
إلـــى مَـضـجَعٍ يُـنـهِي الأَخِــلَّاءُ حَـفـرَهُ

جَـحِـيمٌ هــو الـشـوقُ الـذي كـان هَـمَّهُ
ولــكـنَّ دِفءَ الــوَصـلِ أَنــسـاهُ جَـمـرَهُ

فــكَــم قــاهِـرٍ بِـالـحُـبِّ أَعـــداءَ قَـلـبِـهِ
ولــــم يَـسـتـطِـع إلَّا مُــحِـبُّـوهُ قَــهــرَهُ

وكـــم كــاسِـرٍ بِـالـصَّـبرِ قَــيـدًا وغُـربَـةً
فــلـم تَـحـتَـرِف إِلَّا الـخِـيـاناتُ كَـسـرَهُ

وكــــم شــاعــرٍ لــــم يُــبـقِ إِلَّا يَـمِـيـنَهُ
ومِـصـباحَهَ الـمَكسورَ، لـم يَـلقَ شُـكرَهُ!

عـلى دَكَّـةٍ فـي الـرُّكنِ.. عـادُوا، كَـأنَّهم
يَـقُـولونَ: حـتـى صِـفـرُهُ لـيـس صِـفرَهُ

يَـقـولونَ: لــم يُـكـمِل عَـن الـرِّيحِ بَـيتَهُ
يَـقـولونَ: لـم يَـرسُم مـع الـزَّهرِ عِـطرَهُ

ويُـحصُونَ مـا أَبقَى مِن البُؤسِ، بعدما
أَثـــارُوا غُــبـارًا كــان بِـالأَمـسِ ذُخــرَهُ

لـقـد كــان حُــبُّ الـنَّـاسِ والـشِّعرِ زادَهُ
ولــكـنَّ بــعـضَ الــحُـبِّ إِن زادَ يُــكـرَهُ

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!