(إلى الشاعر أنور اليزيدي
ذكرى باب منارة 2005)
لم يكُنْ بيْننا عاليا
هو ذا يدْخل البحْر
مُؤْتزرًا غابةً
يدْخلُ البحر
لمّا يزلْ ثابتا في منابته
يتشقّقُ أعْزل إلاّ من الضحكات
يعضُّ بها العابرين ويسْحلهم
ثُمّ يرْمي بهمْ خلْفه،
لم ينْل حظّهُ،
لم يقلْ للحمامة كُفّي عن الزّجل العذْب
لا، لم ينلْ في الليالي احترام السّكارى
ولا بائعات الحليب بلاَ ثَمنٍ.
كانَ مثْلي فقطْ
كان يبْصق مثلي على ظلّه المُخْمليّ
على وجْهه!
كان يبْصق مثلي
على العابرات بأرْدافهنّ الثّقيلة حين يُجنْدلنْهُ
فيُتمْتمُ: لوْ أنّ لي راحة
لنزعت ملابسهنّ وعلّقتها لافتات لخيْباتنا.
لم يذقْ طعْنة
منْ رحيق الأهلّة
إلاّ ووشْوش لي:
موحشٌ عالمُ الناس هذا
فماذا ستفعل إن ظفروا بك؟
تحْتضن الله محْتفظا كالفراشة
بالطْفل فيك يكسّر ألعابه
ثمّ ماذا ستفْعلُ إنْ ظفرُوا بك؟
تجْنحُ للهدْم،
تُطعم لحمك للخيْل والطّير
واللّيلك الجبليّ
ألمْ تر كيْف انتهينا
أصابع مقْلوعةً!؟
مُوحشٌ عالمُ النّاس هذا
فماذا ستفْعلُ إن ظفرُوا بك
تخْلعُ قلْبك شرْنقة للفراشاتِ
للبرْق والقمر البُرْتقاليّ
ماذا ستفْعلُ إنْ ظفرُوا بك؟
تمْنح رُوحك للرّيح
ترْعى القصيدة سيّدة
قطّعت يدها بصْلة جافّة
ثمّ ماذا ستفْعلُ؟
إنْ ظفروا بك تصْقل صوتك
خابية من قُبلْ.
بيْنما الواقفُون،
على حافّة منْ رصيف قُبالته
بشرٌ برؤوس جواميس
تعْلك أيّامها،
بشرٌ برؤوسِ سحالٍ وإنْ نطقُوا
عبروا زبدا في صباحٍ كهذا
عن الله والورْدِ
والنّور في شُغُلٍ
والجدارُ الأخيرُ
جدارُ المحطّة
أصْدقُ من سادتي الشّعراء إذا وُجدوا.
كلّ شيء هنا
كلّ شيء على حاله
الغيبُ جرّافةٌ تتقدّم
تهدم ما يتجسّد
سائقها الهمجيّ الضغينة
تحتكر الله تسمن مزْهوّةً
كلّ شيء على حاله الساعة الآن أعلى الجدار
جدار المحطة جيفة آلهة تتفتّت
بالبول، بالسمّ والحيض تطفر
فيما النّوافذُ لا يدْخلُ البحرُ منْها
وكلّ الدُّروب ثعابينُ
تُفْضي إلى المقْبرهْ….
كلُّ شيء على حاله يتفسّخ والآفلون المسوخ هنا
صُحفٌ جيفٌ
لا تعاد قراءتها
لا تحرّض إلاّ على الانْتحار
وتدعُوك أنْ تتقيّأ،
أنْ تتبوّلَ، مبتلعا شفرات الحلاقة تثغو
كمن يتذكّر
والحافلات تجيء وتذهبُ
بالماعز الآدميّ
تجيء وتذْهب ملآنة بالغبار!
هنا كلُّ شيء على حاله العدمُ الخصب أرخى بكَلْكَلِه
الشمْسُ شحّاذة تحْته،
تتقيّأُ أمْعاءها.
الصّبايا قوارير مغشوشة بالمساحيق
والوافدون دنانيرُ مدهوسةٌ
أرْضُنا الوحْشُ يبْلعُ أكْباده
والسّماءُ غماماتُها الفحْمُ
مثل ملامحنا
بالمسامير،
بالملْح والنّار والشوك تُمْطرُ!
والعابرون بجانبه الدّمعُ
في مُقْلتيه،
خفافيشُ تزْعق مقْلوبةً
كل شيء على حاله المومسات
حجارة هذا الرصيف.
وسائد رأسي
أحنّ عليّ من الأهل والله والأصدقاء.
والجدار الأخير جدار المحطّة
يبْدو نقيّا، وضيئَا كلؤلؤة
مثْل وجْه رضيع،
عثرتُ عليه مُدمّى،
وقدْ شَنقُوه بأوْصاله
ورموا زهْر أشْلائهِ في مصبّ المزابل
كم خلته دُمْيةً،
خلتُه قمرًا لشتاءاتنا.
من مُخيّلتي الآن كالأيل
أقْفزُ أبْعدَ من جُثّتي
وعلى كتفي عالمي صخْرةٌ
مجْبرٌ أن أغنّي كمنْ بتروا ساقَه
مجْبرٌ أنْ أرى بلدي ورْدةً
لا تعضُّ سوى عطْرها
مجْبرٌ أن أرى حُلُمي بغْلةً
لا تصكّ سوى ذيْلها،
لا تصكّ سوى ظلّها،
مُجْبرٌ أنْ أرى المُفْردات أراملَ
أعيُنهنّ النّوافذُ
منْها أطلُّ على ألْف ألف مسيلمة يتسلّى بنا!
مُجبرٌ أنْ أرى جسدي
قفصــا والكناريّ رُوحي مُصفِّرةً
مجْبرٌ أن أغنّي ولو هشّمُوا كُلّ أجْنِحتِي
مُجْبرٌ أن أرى القلْب بلّوطة جافّةً
تتلهَّى الرّياحُ بها
جوْربا في الفضاء
مُجْبرٌ أن أرى الشّهواتِ مشانقَ
والفتياتِ بضائعَ
والرّؤساء ملائكةً برؤوس قراصنةٍ
مُجْبرٌ أنْ أدقّ بنعْلي التّرابَ الّذي
هُو وجْهي وقلْبي وذاكرتي