لو عدتُ إلى تلافيف ذاكرتي بحثاً عن بدايات العلاقة الروحية مع قصص الأنبياء وبخاصة قصة سيدنا يوسف عليه السلام لوجدت صعوبة بتحديد الزمان، فقد نشأتُ في بيئة ريفية يعلو من نوافذ بيوتها والشرفات صوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يتلو سورة يوسف على وجه التحديد، وخلال ذلك كنت أستمع فيمن يستمعون من بعض رجال القرية وبعض أشرطة الكاسيت إلى قصة النبي يوسف مع عزيز مصر وزليخا زوجة العزيز بعد قصته من إخوته والجب والذئب والجبّ والصبر الجميل من قِبَلِ أبيه يعقوب عليه السلام ثم حزنه على التفريط بيوسف وأخيه حتى فقد نور عينيه.
ومع الزمن كانت تتشكل علاقة ما تقربني من تلك القصة بكامل أشخاصها وكامل مفرداتها وأسئلتها التي لم أعثر على أجوبة لبعضها حتى اليوم.
ولن أتوقف الآن مع جزئيات العلاقة وأسئلتها العديدة، إنما سأعود إلى بعض ذاكرتي المكتوبة على الورق شعراً، وأقرأ تلك العلاقة كما كانت أو كما هي، دون أن أتساءل أو أبحث عن إجابات، فالعلاقة طازجة المعاني، رطبة الإيقاع، رغم البعد الزمني بيني الآن وبين بدايات قراءتي للقصة التي ذكرها القرآن الكريم في سورة يوسف، وتحدثت عنها الكثير من الكتب وتناولها الكثير من الأدباء والعراء على سبيل الاستلهام أو الاستيحاء أو التناص أو القناع وغير ذلك من المسمَّيات المختلفة.
لقد كانت قصيدتي (الذئب) التي وردت في مجموعتي الشعرية الثالثة (كفراشة لا تملك أن تطير) الصادرة عام 2009م إحدى القصائد التي ارتكزت بكاملها على بعض مفردات قصة سيدنا يوسف مستخدمة (الذئب) كدلالة وقناع أحاول الدخول من خلاله إلى مساحة مفترضة مازالت تراودني وتدعوني إليها، ففي المقطع الثالث من القصيدة قلت مصوراً حال الذئب بعد اتهامه بأكل سيدنا يوسف:
في عزلةِ المنفى، يغصّ الذئبُ بالأسرارِ
فالقاضي يسدِّدُ نظرتيهِ، ودونما حلْمٍ، يقولُ:
أكلتَ (يوسفَ) أيّها المسعورُ!.
غابَ الذئبُ عمّا حولَهُ..
وخلالَ ذاكَ الصّمت، تمتمَ قائلاً:
(أوَتعشقونَ الظلمَ،
حتى إذْ تجاوزتمْ حدودكمُ اقتحمتمْ بالأسى دنيا الذئابْ؟!!)
ومن هذا المقطع أنتقل إلى المقطع التالي (الرابع) في القصيدة لتحضر شخصية يوسف بشكل فاعل وتتنحى شخصية الذئب قليلة أمام هول الأسئلة التي تعصف بها، لتبدأ رحلة المجد الطويلة ليوسف عليه السلام من أعماق الجب الذي ألقي فيه من قبل إخوته:
في عزلةِ المنفى يغصُّ الذئبُ بالأسرارِ
والصّدِّيقُ (يوسفُ) من ظلامِ الجبِّ يبدأُ رحلةَ المجدِ الطويلةَ
ناثراً في الأرضِ حنطتَهُ، وثمةَ أنجمٌ تهوي إليهِ
ودونها ذئبٌ يناجي الليلَ، يصبغُ صمتهُ بعصارةٍ حمراءَ
تشبهُ كلْمةً أثرى رؤاها شاعرٌ
في همِّهِ الآتي دمٌ، وقصيدةٌ منثورةٌ
وتسلّقٌ نحوَ البيادرِ، والحرائقِ، وانكسارِ الشّهوةِ الصّفراء
وبرجوع قليل إلى الوراء ربما ثلاثة أعوام لا أكثر أجد بين تلافيف ذاكرة (الكمبيوتر) الخاص بي نصاً نثرياً أسكب فيه بعض هواجسي في ذلك الصباح الذي كنت متوجهاً فيه إلى عملي برفقة العديد من المفردات التي تعصف بي، وبما يشبه العبث وجدتني أمام صورة للرجل الذي جاء إلى سيدنا يوسف طالباً تفسير حلمه بأن رأى نفسه يحمل خبزاً على رأسه وتأكل منه الطير، فهل كان ثمة تقاطع بين خبز الرجل وخبز الشاعر أو بين ذات الشاعر المنفعلة والرجل الذي تلقى كلمات يوسف ولا نعرف أو لعلنا لم نفكر بردة فعله حين سمعها، ولعله لم يسمعها وظلت في فضاء يفصل بينه وبين النبي يوسف في ذلك السجن الذي ألقى بهما عزيز مصر في ظلماته سنين عديدة، لقد كتبت عام 2006م تحت عنوان (قهوة من أجل صباح جديد) في مجموعة نصوص نثرية مخطوطة تحمل العنوان ذاته:
ما أكثر الورد، وما أكثر الشوك…
وما أبعد لقمة الخبز، والحقلُ يموجُ سنابل ..
وأنا بين فَكَّيْ كمّاشةٍ (أشهد أن لا إله إلا الله)،…
وأشهق من مسامير الجاهلية تأكل كفيَّ، وتأكلني
وأُقَبِّلُ كسرةَ الخبزِ، أضعُها على رأسي
يقول يوسف: ستُصلبُ، ويأكلُ الطيرُ من رأسك
ومن هذا الفضاء المؤلم أنتقل ضمن رحلة الألم المشابه إلى قصيدة أخرى في هذا الصدد كانت مفردة (الجبّ) عاملها المؤثر ومنطلقها النابع من قصة يوسف عليه السلام، وسيكون الخطاب فيها للجبّ نفسه حيث كان سيدنا يوسف في قعره لفترة من الزمن، القصيدة تحمل عنان (يا جبّ) وهي منشورة في صحيفة (نينار برس) في شهر (شباط (فبراير) عام 2021م، وسيكون الشاعر فيها شريكاً فاعلاً في الحدث، وسيرتدي قناع يوسف الصدِّيق وربما تجاوز في محنته ما قالته القصة، فالشاعر هنا يُلقى في الجب ويلقى ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية ليبدأ الخطاب بقوله:
كم مرةً (يا جبُّ) سوف أمرُّ في بلوى غيابتك المريعة…
كم سأنفق من دموعي، واشتياقي…
كي أرى دلواً لعابرةٍ تقاسمني الذي بي…
سأباعُ، أو أُشرى، وقد ألقى المزيد من العذابِ، وقد أموتْ
لا بأس، ليس مهمّاً
فالموت تحت مظلة الشمس الرحيبة رقصة خضراء يتقنها الذي أمضى مواسمه حبيس (الجبُّ)
تؤنسه العفونة، والرطوبة، واللزوجة،
أو فَقَدْ يحبو عليه ذات حظٍّ عنكبوتْ
ويبقى الخطاب للجب العنصر المستهدف في القصيدة والذي يشكل الوعاء الذي تتشكل فيه الرؤيا التي امتلك الشاعر زمامها لابساً قناعه ومحيداً الشخصية الحقيقية في الحدث إنما مستوحياً ما أمكنه منها، خلال ذلك يعرض قهره وآلامه ومعاناته التي يفقد معها كل شيء يملكه:
يا جبُّ…
آلاف الأماني تحت أنقاض الجفولِ والانتظارْ
أصغي لصرختها، لوقع نهايتي…
وتتعاقب الآهاتُ…
ليس هناك إلاّ غربة تمتدّ…
ليس هناك إلاّ رعشة هوجاء تحجب ما تبقى من نهارْ
ويمرُّ يومٌ آخرٌ، لا دفء في الحطب المعدِّ لجولة أخرى من النَّحر المقيتْ
الفأس تهوي فوقه، تهوي بكل وقاحة
وتفور شهوة غاصبيه…
لعنةً سوداء، أفعى تستبدُّ يكل ما اكتنزت بيادر قمحه
من أغنيات الشوق، من عشق تواثب فوق أغلال السكوتْ
هذا، وفي قصيدة أخرى تحمل تاريخ منتصف العام 2022م تقريباً يبقى الحدث في الجبِّ أو مع الجب ذاته، ولأن جرعات القهر والحزن كانت طاغية فالجبّ بصفته المكان المناسب لفقد الأمل ولو بشكل جزئي فقد سيطرت المفردة مرة أُخرى، القصيدة تحمل عنوان (علامات ترقيم.. خارج دائرة الأمل) ويبقى قناع (يوسف) موجوداً وتتعدد الأسئلة الخارجة من قعر الجبّ، وتذوب في الريح حين تصدم بمطبات خارجة عن سيرورة القصة الأساسية، فلا إخوة يحملون النبأ إلى أبيهم، ولا سيارة تلتقط الشاعر القابع في غيابة الجب:
في قرارِ الجبِّ مازلتُ سجيناً…
لا قميصاً، لا دماءً تتهادى…
ومضى إخوتي الألفُ بعيداً
في صحاري الوقتِ والرِّيحِ، فُرادى
لم يقلْ قائِلُهُمْ، مَزَّقَهُ الذِّئبُ،
ولا عفَّرَ بالوهمِ لرؤياهُ مُرادا
ومضى الشَّوقُ، سراباً كانَ…
أودى بتراتيلِ الأقاحي، وتَمادى
عبرتْ قافلةُ الأحلامِ، لمْ تَدْلُ بدلوٍ…
لم تشأْ منهُ ارتيادا
ومضتْ في وَجَعِ الصَّمْتِ، رمالاً
تعبرُ الوقتَ، وتزدادُ ابتعادا
أنا مازلتُ هنا في الجبِّ، لا السَّيَّارَةُ لمَّتْني
ولا الذّئبُ أرادا…
ومن هذا الوجع تمضي القصة المستوحاة إلى فضاءاتها الدالة والمتمثلة بالهم الذاتي في ظاهر الأمر والهم العام في حقيقته، لتكتمل اللوحة داخل الجب وليس خارجه:
وجعي قصَّةُ أيامٍ توالَتْ
فسوادٌ يملأُ الكونَ سوادا
وخفافيشُ المَدى تملأُ أرضَ العشقِ
خوفاً، وجنوناً، وفسادا
في قرارِ الجبِّ أسماءٌ، وأسرارٌ أَبَتْ في زحمةِ الآهِ رقادا
ويمرُّ الوعدُ، لا زرعَ بِوادينا…
يبلُّ الشَّوقَ فيهِ، لا حصادا
كبرَ الجُرْحُ، وأنَّى للحيارى
في زحامِ القَهْرِ أَنْ تلقى ضمادا!؟
ولا بأس بعد هذا العرض أن أتوقف عند هواجس أُخرى لم تكن قبل الكتابة إنما أتت بعد ذلك، فقصّة يوسف عليه السلام تُفضي في حقيقة الأمر إلى أقصى مساحات الأمل، وتصعد بالحدث من قعر الجبّ إلى أعلى مراتب المجد، ولكن القصيدة تقف في واقعنا الراهن عند حدود الدمعة وفي مساحة مظلمة من الحدث، وخلال ذلك يبقى الوجع وتتداخل مفرداته لتتوزع بين مفردات القصيدة المستوحاة أو المستلهمة، وعلى كل حال فنحن لا نفقد الأمل بأن يأتي الله بالفَرَجِ وتنتقلُ القصيدة إلى مساحات أخرى، هي الغاية والرجاء بلا شك.