حين تتحول الحياة الى كأس من السم يتسرب ببطئ الى جميع اعضاء الجسد فتجعلها تتآكل من الداخل شيئاً فشيئاً، حتى يصبح الانسان بمرور الزمن مجرداً من كل مقومات البقاء بعدما يتجرد من الامل، فان الحياة نفسها تغدو آلة دمار، ووهم قاتل يتغذى عليه الانسان منذ صرخته الاولى الى اخر نفس له، ولعل ذلك فعلياً كان وراء انجراف الانسان منذ البدء الى التمرد لا على الاعراف فحسب بل حتى على الهته، وتلك الشرائع التي تقضي بأن يموت الانسان جوعاً افضل من أن يخضع لمنطق المقبول واللامقبول وفق تشريعات الالهة والمجتمع.
لقد حولت الحياة بانيابها مسارات وجود الانسان وفق معطيات سبقية وجعلته خاضعاً لمنطق الماهية التي تسبق وجوده الحر، لذا حين نشأ وادرك ووعى، وجد نفسه محاطاً بالعديد من التساؤلات التي لا اجوبة لها، فاصبح بلا رغبة منه بين فك قسوة العيش وعدميتها وبين الاخذ بالاختيار كي يجنب نفسه الموت فوق ارصفة البلهاء ممن ارتضى اللاخيار ووقع فريسة الحياة والجوع ومنطق المقبول واللامقبول،وكأنها الحياة منذ البدء فرضت على الوجود الانساني ان يؤمن بان خلاص الانسان لن يتأتى من خلال ادارة ظهره للعالم والهروب منه، وانما حتم عليه الانغماس في العالم حتى النهاية بوعي كامل لمسؤولياته ووجوده، ووفق مخاض تلك الرؤى تحولت حياة الشاب ” أنس ” من غياهب الجوع، والخوف من اقتراف الخطأ الى حياة تدخل الفرح في نفوس الاخرين ممن هم بنظر المجتمع منبوذون ليس لانهم يتجارون بارواح الناس واعراضهم، او لانهم مارقون سارقون، او ممن يتعدون على حقوق الاخرين او كاذبين، انما فقط لانهم قرروا واختاروا اللجوء الى ما يبعدهم عن عفونة هذا المجتمع المارق الذي يعيش على النفاق الاخلاقي والسياسي والاجتماعي، نعم أنس صورة حية لمن اراد العيش والانغماس في العالم لا الهرب منه، حتى لو كان مَن شجعه هو نفسه الذي يهرب من الحياة باللجوء الى السُكرّ احياناً.
كان في مقتبل عمره، حين فقد والده، ولم يجد غير امه التي ضحت من اجله بكل ما تملك، وحين نضج عوده قليلاً، كانت الام تعيش على فتات الحياة، تلك الحياة التي تحولت بنظرها الى مادة ظلامية، تلك المادة التي منها نفسها خلق جسد هذا البشر حتى قام بتحويل العالم كله الى فساد وخداع وموت وآلام ، حيث المرض والفقر، والجوع والبكاء،تُدخل في كل فجر المزيد من الموت البطيئ في روحها، ويجبرانها على الشرب من ذلك السم المسمى بالحياة، كان أنس كلما ينظر اليها يحترق في داخله وينظر الى كل صوب وهو يتمتم بحزن وحرقة انها امي ايتها السماء انها امي ايها البشر،حتى بُح صوته دون مجيب، تكالبت عليه الاقدار والظروف وكان عليه الاختيار بين رؤية امه تحتضر جوعاً ومرضاً، وبين دراسته ولم يتردد لحظة وقتها، حيث اختار ترك الدراسة وكل شيء والبحث عن لقمة عيش كي يعيل بها امه المريضة التي تريد الهرب من العالم، ولانه لم يكمل دراسته فلا فرصة لعمل منظم ودائمي، وانما عليه ان يعمل اجيراً يستغله اصحاب الجشع البشري كلٌ وفق حاجاته، وحين ادرك تماماً بانه لن يستطيع الصمود امام تلك المطبات البشرية الحياتية، لجأ الى ابواب احدى الجوامع يطلب من اصحاب الايمان المساعدة ولو بالقليل ليس لاجل ان يعيش هو كباقي البشر انما ليعيل امه التي تحتضر بعدما اعطته كل شيء من روحها وقلبها وحياتها، كم كان الامر صعباً في بدايته بالنسبة له، ولكن براً بوالدته رضي بالمذلة ورضي بنظرات الاخرين، لاشيء عنده كان اهم من يعود الى البيت حاملاَ دواء امه، او لقمة يسد بها جوعها، توالت الايام وأنس يدرك تماما بان اهل الايمان ينظرون اليه باستصغار، وانهم يتمتون.. هو شاب لماذا لايذهب ليجد لنفسه عملاً شريفاً، وهولاء هم انفسهم اذا طلب انس منهم ان يوظفوه في وظيفة ” شريفة كما يدعون” او يمنحونه اي عمل كان سيقبل، ولكنهم هم في الاصل من سدوا امام وجهه كل السبل فلم يجد غير ما يقوم به الان الجلوس امام باب الجامع ليقتات من فتات روداه، هذا ان وجد بينهم من يدرك في الاصل لماذا هو يدخل الجامع.
في ليلة شتوية باردة ، حيث المطر يغسل آلام الارواح الحزينة، ويزيدها في الوقت نفسه اوجاع البقاء، ييأس أنس من جلوسه امام باب احدى الجوامع، فتحامل على نفسه وقام يتجول في احياء المدينة وشوراعها عله يجد من يمنحه فقط ما يشتري به خبزاً لامه، قادته خطواته الى احدى الشوارع الرئيسية في المدينة،حتى مَرّ امام احدى البارات، البرد كان يعصف به، لجوعه ، ولحزنه على جوع امه التي تنتظر عودته ولو برغيف خبز، وبينما كان يمر بخطى مثقلة امام احدى البارات التي تملئ ذلك الشارع خرج منها شاب في منتصف عقده الثلاثيني، كانت رائحة المشروبات تفوح منه، لم يكن سكيراً ولكنه كان بين الامرين، نظر الشاب الى أنس وهو يمر مطأطئ الرأسوواضعاً يديه تحت ابطيه، لم يكن يعرفه، لكن انسانيته كانت تعرف بان الذي يمر امامه انسان، قال له هل تشعر بالبرد…؟ ، هل انت جائع…؟ ، نظر أنس اليه والدموع في تلك الليلة الباردة تغزوا عيناه.. قال نعم.. قال تعال خذ هذا المال واذهب لتشتري به لنفسك طعاماً ولتعُد للبيت ولاتبقى على الشارع لان البرودة ستقتلك..اخذ أنس المال وشكره على ذلك.. ومضى للبيت حاملاً لامه ما يسد به جوعها ويخفف عنها ألم مرضها، ولكن أنس ظل متسغرباً مندهشاً، وهو يردد في نفسه مع نفسه لم يقل احداً لي يوماً وانا امام باب الجامع هل تشعر بالبرد..؟ هل تحتاج الى المال..؟ ، مالذي جعلك تترك دراستك وتعمل على طلب المال ..؟، تلك التساؤلات غيرت بعض ملامح أنس،حيث ادرك بأن الهذلك الشاب ليس كاله رواد الجوامع، لان اله الاول منغمس في شؤون العالم والانسان، بينما اله الاخرين متعال على كل ما يجري في العالم المادي، فقرر ان يقف امام البارات بدل الجوامع، وبعد ايام قليلة اعطى لنفسه حق خرق الاعراف الاجتماعية التي تمنعه من دخول البارات فدخلها، وبدأ يطلب المال من الجالسين على تلك الطاولات، وذات يوم، ناداه احدهم، لم يكن يعرفان بعضهما البعض، سأله ما اسمك، قال أنس.. قال لماذا تعيش على الطلب.. قال لاساعد امي المريضة ولادفع ايجار البيت الذي يأويني مع امي.. صفن الشاب وتمتم في نفسه وهل من انسان يأخذ من امثالك وامك الايجار..؟، ثم اردف قائلاً: هل اقول لك شيئا يفيدك بشكل اكثر في عملك ويجعلك تعيش حياة افضل .. قال أنس مستغرباً نعم تفضل..! ، قال خذ هذا المال واذهب لتشتري به بعض الورود وقارورة عطر، وحين تدخل هنا او في اي بار اخر، ضع على كل طاولة وردة دون طلب المال من اصحابها، ولاترش عليهم العطر الا اذا طلبوا منك ذلك وليكن العطر هادئاً خفيفاً، قد لايعطونك في اول الامر، ولكنهم حتى وان كانوا سكارى سيدركون حجم ما تقدمه انت لهم من احترام ومودة وحب، وذات يوم سيدفعون لك ما يسد به رمقك.. ويخفف من مرض امك..وما قد تدفعه لجشع ذلك البشري الذي يطالبك بالايجار، كما ستحافظ به على شخصيتك كانسان كادح.. اخذ أنس منه المال وعيناه دامعتان،شكره كثيراً.. وحين حل المساء في اليوم التالي دخل أنس البارات بحلته الجديدة، وطريقة عمل مستحدثة، لم يعد يمد يده لطلب المال، انما كان يمد يده لزرع المحبة، وبدأ يوزع الورود على الجالسين فيها، ويوماً بعد يوم تحسنت احوال أنس واستطاع من شراء بيت قديم يأويه ويأوي امه، بدل الايجار ، وبقي رغم ذلك مستمراً في عمله، و ذات ليلة بينما هو يوزع الورود ، استغرب احد رواد البارات الجدد، عندما شاهده يضع الورد امامه ولم يطلب منه ثمنها او شيء، قال لاصحابه من هذا، وماذا يعمل..؟، قالوا له هذا أنس الذي يهدي الورود للاخرين دون ثمن، تعجب من امره، وقال لاصحابه ما قصته، وكيف لايطلب ثمنها، انه من حقه، هل يمكنني التحدث اليه.. قالوا لابأس، نادى احدهم أنس فاتاه، قال لأنس اذا لديك وقت يريد صديقنا الذي عاد من الغربة ان يتحدث اليك.. رد انس لكني اعمل وهذه ساعات عملي.. قال الشاب العائد.. كم تكسب خلال عملك في الليل..فرد عليه أنس برقم محدد.. قال تعال اجلس واحكي لي قصتك وانا ساعطيك ضعف ذلك الليلة.. فجلس أنس وبدأ يسرد عليه قصته، دمعت عيناه، وحضن رأس انس وقَبَله، سألههل تعرف ذلك الشاب الذي ارشدك لطريقة عملك.. قال منذ تلك الليلة وانا ابحث عنه لاشكره لكني لم اجده وكأنه كان طيفاً ظهر خصيصاً ليرشدني الى هذا العمل ويختفي بعدها.. قال الشاب هناك سكير يدرك كيف يمنح الحياة لعاجز فقير بكلامه اكثر من مدعي لايعطي حتى الصدقة الا امام انظار الناس تمجيداً لذاته.. ان ذلك الشاب لهو مدرسة حتى لو كانت رائحة المشروبات تفوح منه.. واولئك المُدّعون انما مارقين يمنعون الناس من كسب قوتهم حتى لو كانوا ممن يسجدون لربهم في اليوم مائة مرة.
تلك المفارقة الغريبة .. والجزئية البسيطة التي حولت حياة أنس الى حياة افضل، لم تأتي من اصحاب النصيحة ” انما الدين النصيحة ” ، انما اتت ممن ينبذهم اصحاب النصيحة ، مَن كان يرتاد البارات التزم بانسانية المقابل واعطاه الكلمة التي تحيي فيه الامل بالوجود ، والاخرون نظروا اليه باستخفاف، ولعل نظراتهم ودعواتهم وتمتماتهم هي نفسها التي قادت أنس الى البارات دون ان يشرب، ولم تدفعه للجوامع ليستصغر الاخرين مثلهم، هكذا بكلمة من سكير تحولت حياة الشاب، ومضى يعمل باخلاص، ويقتني اجمل الورود ويلبس افضل ما لديه اثناء عمله، حتى انقلبت عليه الاقدار و تداركته المنية ذات ليلة حالكة الظلمة عندما دهسته سيارة غني ” لايشرب ” حين كان أنس يتنقل بين اماكن عمله ليكسب قوت حياته.. فاقيم له عزاء حضره اصحاب البارات ممن زرع أنس المحبة على طاولاتهم ولم يحضر من اقاربه واصحاب ….. الا القلة لأن أنس بنظرهم كان ممن يرتاد البارات.