لن أحكى شيئا ، فالمخبرون الأن يجوبون الأرجاء بحثا عن حرف .. لا أقول (ألف) حرف ، و لكن ألف حرف .. و لام حرف .. و ميم حرف .. و الميكروباص حرف.
اعتدت ارتياد الموقف متأخرا تجنبا لتزاحم الناس فى الصباح الباكر فى استقبال الميكروباص ، هم الأن الذين يتزاحمون فى صف طويل مشرعة أبوابها انتقى منها ما أشاء .. تجنبت مقعدى المفضل جوار الباب و اتجهت فورا للكنبة الخلفية .. بحركات أجيدها تقترب ساقى من ساق الفتاة الجميلة .. قبل أن يتحرك الميكروباص التصقت بها .. لم تكن ساخنة .. فقدت رغبتى ، مد السائق بصره عبر الزجاج .. تأكد من اكتمال الحمولة و من وجود راكب فى الزاوية الصغيرة لصق الباب .. صعد داخل السيارة دون أن يسكب كوب الشاى .. أدار الكاسيت و انطلق .. الشيخ أمامى لم يستسلم ، لكنه يخشى المواجهة كخشيتى قرارات صندوق النقد .. فقط أخرج هاتفه النقال ثم لعبت أصابعه.
“غرقنى فى شبر مايه / صحينى فتحلى عينيا / هديك هديك و هكارك / و ارجع تانى أقول ده شوية”
“و كل انسان ألزمناه طائره فى عنقه . و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منثورا . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”
بمجرد وصول الكرة لقدمى أركض بها و لا يلحق بى أحد .. ينظرون إلىّ بدهشة بعد كل هدف .. كيف يمكننى المرور منهم جميعا بتلك السرعة و الكرة لا تفارق قدمى .. الوقت وقت ظهيرة ، و الشمس تكاد تسقط فى الشارع الذى اتخذناه ملعبا .. “أكيد هو ليس بصائم” .. أقسم أحدهم :”رأيته يخرج من محل العصير بالجوار” .. لا أهتم .. انطلق بالكرة لإحراز الأهداف التى تكفى لإنهاء المباراة اللعينة قبل قدوم أبى .. بعد انتهاء المباراة تهافت أفراد فريقى لتهنئتى .. سألنى أحدهم : “هل ستلعب غدا معنا؟” … “مش عارف”.
نسيت تماما الفتاة الجالسة بجوارى بينما اتابع المبارزة ، صوت كاسيت الميكروباص أعلى قطعا لكن الشيخ لم يستسلم ، بدأ يردد الأيات مع هاتفه و رأسه تتمايل أمامى بقوة أيقظت الرجل جانبه
“و فيه ناس مش عايزة تعيشها / و فيه ناس واخداها سياحة / و آدم نزلنا الأرض / علشان قطف التفاحة”
” و إذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم . و كان الانسان كفورا”
أوصد باب الشقة ثم انتظر .. لا يمكن بأى حال أن تصعد معى .. نصف ساعة أو أكثر أترقب دقتها على الباب بأنفس لاهثة ، هى دوما توشوش الباب حتى لا ينتبه أحد حتى أنا .. تدخل مرتابة ، متوترة .. تجلس على نفس المقعد الخشبى و هى توزع نظراتها فى أرجاء الغرفة و كأنها تراها لأول مرة .. دون صوت اقترب منها فليس لدينا الكثير .. “وحشتينى” .. هى تعشق المقدمات بينما أفضِّل من الأمر فصوله الأخيره .. أتذكر الجملة التى ترادف دوما حصولى على المفتاح .. “اوعى البواب يشوفك” .. أقودها بحرص صوب السرير القابع فى ركن الغرفة خشية أن نصدم جسد البواب القابع فى أرض الغرفة .. خلعت ملابسى ، رقدت فوقها .. هى لا تسمح لى بكل شئ ، و فى المقابل أعطيها كل شئ .. التحمنا .. نسينا كل ما لاقيناه طوال الشهر الماضى لنحصل على تلك اللحظة .. نسينا حتى البواب الذى استدار فى رقدته فصار وجهه صوب ركن الغرفة .. ارتعش جسدها ، ظننته الأورجازم ، تحركت فوقها بسرعة ، ازدادت رعشتها .. حاولت دفعى عنها ، ازددت التصاقا بها ، دفعتنى بساقيها و بصوت مبحوح قالت : “الأدان” .. قمت عنها رغم أنى لم أعرف حينها أكان الآذان للظهر أم للعصر.
لم أر وجه الشيخ و قد برزت عروق رقبته دون أن يفقد تمايله و قد أخذ النوم الرجل جاره مرة أخرى .. انتبهت إلى أن نوافذ الميكروباص جميعها مغلقة عندما ملأت أنفى رائحة خراء قوية قد أكون مصدرها ، و الفتاة جوارى بدت أكثر امتلاءا و هى تلقم ثديها لصغيرها .. أشحت بوجهى عنها و أنا أدعو الله أن يتذكر السائق دون أن احتاج تذكيره أن لى باقى عشرة جنيه.
“لكن عمرك مش دايم اذكر رب العالمين / لو هاتعنتل و عايم فى الفقر حاتعيش سنين”
“أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات و الأرض قادر على أن يخلق مثلهم و جعل لهم أجلا لا ريب فيه . فأبى الظالمون إلا كفورا”
لا أدرى لماذا اختصنى المعزون بالتحية ، فور وصولهم يشدون على يدى بحرارة .. هزات قوية لا تنتهى .ز “البقية فى حياتك” .. لا أريد تلك البقية .. اتصدر مقدمة العزاء .. حاولت تذكر الشخص الذى قادنى لهذا المكان دون جدوى .. “البقية فى حياتك” و أنا لا أريد تلك البقية .. بحثت حولى .. أمى ، أبى ، جدتى ، حتى عمى الذى اعتاد ملازمتى فى مشاويرى الأولى ، اختفى الجميع إلا من رجل قصير ممتلئ سريع الحركة ذو ربطة عنق صغير الحجم و قميص أبيض يعرض علىّ كل دقيقة فنجانا من القهوة طمعا فى إكرامية معتبرة نهاية اليوم .. و الآخرون من وراء سورة يوسف بمقاعدهم المتلاصقة يتبادلون أحاديث جانبية ، و بين الفينة و الأخرى يصوبون نظرة سريعة تجاهى ثم يكملون حديثهم .. أوقف الرجل ابنه قبل دخول الصوان ، همس فى أذنه و هو يشير إلىّ: “لما تسلم عليه ماتقولش البقية فى حياتك ، قول البقاء لله”
سكون تام خيم الأرجاء .. قد يكون كاسيت الميكروباص أصابه عطب ما كما العطب الذى أصاب محركها بالأمس ، قد تكون بطارية هاتف الشيخ استنفذت قواها كما أحباله الصوتية ، و قد أكون فقدت حاسة السمع كما فقدت حاسة البصر أول أمس .. كلها احتمالات واردة ، و لا حقيقة سائدة سوى السكون ، سكون ثقيل لايجرؤ مقارعته أحد .. هنا صاح السائق بصوت أشبه بالمارشات العسكرية : “حد ليه باقى ورا؟؟” .. لم يرد أحد.