منذ مدة والحاج الذهبي يفكر في القيام برحلة حج جديدة . فبعد مُضيّ ثلاثين عاما على حجه الأخير، أصبح يخشى أن يكون أجر زيارته للبقاع المقدسة قد سقط بالتقادم، وثوابها تلاشى مع مرّ السنين. صحيح أنه بعدما غُفر له ما تقدم من ذنبه، حافظ على صلواته الخمس وأداها في وقتها، وزكى ماله بقدر ما طاوعته نفسه، وصام رمضان والأيام البيض، ثم استزاد يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع ولم يأت كبيرة تذكر. إلا أن حُبه الجَمّ للمال كان خطيئتهُ التي أحاطت به وعجز على تركها والتوبة عنها. لقد كنز الذهب والفضة وأبقى يده مغلولة إلى عنقه، ولم ينفق من سعته وهو ذو سعة، وحرم نفسه من زينة الحياة الدنيا ونسي نصيبه منها، ولم يكن في ماله حق للسائل والمحروم قط .
كان تقتيره حديث جيرانه و سبب نفور ذويه ومعارفه منه، وكان منبع تعاسة زوجته الثانية. زوجة شابة إقترنت به قبل ربيعها العشرين منذ أكثر من عقدين بعد ترمله. حينها، كان عزاءها الوحيد في فرق السن الكبير بينهما عندما دفتعها والدتها لقبول العريس الشيخ, هو أنها ستعيش معه في رَغَد ودَعَة، فتتمتع بثروته الكبيرة في حياته قبل أن ترِثه بعد وفاته، خصوصا وأن أبنيه الوحيدين، مستقلان عنه ويمتهنان التجارة بالمهجر. قبلت الشابة على مضض الزواج منه مقابل مهر زهيد ومن دون حفل زفاف، وقبلت بمرارة شرطه المجحف بعدم الإنجاب منه لعدم استطاعته إعالتهما هي وٱبنها في آن واحد. غير أنها بعدما عاشرته لمدة، وعايشت معه الشظف وضيق الحال رغم حسابه البنكي السمين، و إيرادت كراء الفرن التقليدي، ومحل تجارة الخشب وعددٍ من منازِلَ يملِكُها بالحي الشعبي الذي يسكنه، إكتشفت أنها طاردت حلما كاذبا، فوقعت في مطب سِيقت إليه بدافع الطمع. علمت أن زوجته الأولى فارقت الحياة في مستشفى عمومي بسبب رفضه اقتناء مضادات حيوية كانت في حاجة ماسة إليها، معللا قراره بكون الشفاء أمرا بيد اللّه، لا بيد الأطباء الذين سلّموه تلك الوصفة. علمت أيضا أن أبنيه المشهود لهما بحسن الخلق وبر الوالدين، إنما هجراه وهاجرا طلبا للرزق بعدما ضاقا ذرعا بشح والدهما المرضي. فقد كان يرغمهما على دفع ضعف السومة الكرائية مقابل استغلال محل تجارة الخشب، محل كان في ملكية والدتهما قيد حياتها. وبما أنه الوالد وله كل الحق عليهما، كان يطالبهما أيضا بإيعاله بسخاء، ويطلب منهما ذلك نقدا ليتصرف فيه بمعرفته.
دأب على صيام يومي الأثنين والخميس ، وروّد زوجته الشابة على هذه السنة الحميدة، وعودها على الإفطار مثله على حبتي تمر وكوب حليب إقتداءاً بالنبي الكريم. أما خلال باقي أيام الأسبوع، فكانت وجباته لا تحيد عن خبز شعير يبلله بشاي دون سكر، أو حساءِ خضرٍ أو شربة، خصوصا بعدما فقد أسنانه وٱستغلى ثمن طقم بديل.
في الحقيقة، لم تكن فكرة حجه الجديد فكرته، ولم يكن جد متحمس لها، بل دُفع إليها دفعا من طرف الشابّ المُلتزم حسن. كان حسن، إبن أخته البِكر، والوحيد من بين أفراد عائلته الذي حافظ على صلته به بعدما نبذه الجميع. واضب على زيارته بين الفينة والأخرى ليطمأن على صحته، ويحاول إقناعه بأوفر ما يكون اللّين في الكلام وأبلغ ما يكون اللّطف في الحديث أن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وأن وعدَ الحُرّ دين عليه، وأن الوفاء بالنذر فرضٌ لا يقبل التهاون لمن يخاف يوما كان شره مستطيرا. ومع اقتراب الأشهر الحرم، أصبح حسن يزوره عصر كل يوم، يرن جرس بابه، فيُطل الخال من خلال العين السحرية أولا، ثم يخرُج إليه و ينأى به خطوات بجانب مسكنه معتذرا لعدم إمكانية دعوته لكأس شاي بالبيت لأنه صائم، ولأن زوجته طريحة الفراش من الحمّى. يقبل الشاب اعتذاره بصدر رحب ويمضي يحادثه لدقائق واقفا. يلح عليه كي يقوم بالإجراٱت اللاّزمة للحج وفاءا بنذره. نذرٌ كان الخال قد تفوه به في حضرته خلال حادثة خاصة شهدها قبل سنين.
كان ذلك قبل خمس سنوات، عندما إستفاق الحاج في منتصف إحدى ليالي الشتاء على وقع وجع يقطع أوصاله. وٓكٓزٓ زوجته بمرفقه فأفاقت مذعورة فزعة. بدا لها زوجها الثمانينيّ الهزيل البِنية يتلوى من شدة الألم حد الإغماء. أُصيبت بالذهول أمام قساوة ذلك المشهد الذي أعجزها عن التفكير وشلها عن الحركة. وبعد ثوان، بعدما استعادت بعضا من فطنتها، فكرت في الإتصال بحسن، فهو الوحيد الذي لن يتوانى عن مساعدتها.
مباشرة بعد المكالمة، حضر هذا الأخير على متن سيارته النصف نقل ليرتفقه لمستعجلات المستشفى المحلي. خلال الرحلة، كان الصراخ العالى للحاج يصُم الآذان، وعويله المُزعج يُقَشْعِرُ الأبدان، وكلما كانت الزوجة الشابة تحاول مواساته وهي مُوشِقةُ بجلبابه، كان يدفعها و ينهرها بفضاضة. يرشقها بأبشع السُباب ويتهمها بالنّفاق والتمثيل، لأنها في واقع الأمر، لا تنتظر إلا هلاكه للتُمتّع أخيرا بثروته. كانت الطريق الطويلة إلى المستشفى متآكلة الجنبات، وكانت في تلك الليلة الممطرة، ضلماء مُوحشة تستلزم أقصى درجات التركيز من لدُن السائق. لذا حافظ حسن على هدوءه رغم الصخب والجلٰجلة، وحاول تهدئة الشيخ الموجوع بكلام رصين كالعادة. ودون الإلتفاتة إليه، خاطبه بصوته الرخيم: عليك بالصبر والتجلد يا خال، أنت رجل مؤمن. لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا، هو من يبتلي المؤمن من عباده بالمرض. أما الأعمار فبيده وحده لا شريك له. إن صحّ العبدُ بَعْد سَقَمِه، فنِعم، و إن كتَبَ له المنيّة، فلُقى اللّه أنعم. أجابه الشيخ النوّاح، بل هي النهاية يا ولدي، أنا متأكد أنها ليلتي الأخيرة. والحَقّ أقول لك. لستُ واللّه خائفا من الموت، ولكن لي بالقلب غُصّة …أُحس بغُبن يجثم على صدري لأنني سأموت وأترك ثروتي للأوغاد. زوجة الشؤم هته، وإبناي العاقّيْن اللّذان هجراني منذ سنين. سيبددونها في لمح البصر دون ٱكتراث. واناّ لهم الإكتراث، كيف يكترث من اغتنى دون عناء. أنا الوحيد من يعرف قيمة ثروتي. لقد أفنيت عمري كله في ادخارها درهما بعد درهم، واستخسرتُ على نفسي المأكل والملبس والسفر. ثم بعد كل هذا، يرثني هؤلاء المبذرون ويبددون ما جمَعْت لإرضاء نزواتهم التافهة….. ياويلتي، ليتني لم أكنز فِلساواحدا، ليتني صرفت مالي عن آخره لكي لا ينعم به الأوغاد بعدي.
هون عليك يا خال قال حسن بنبرة متفائلة، سنزور الطبيب، وبعد العلاج ستكون بألف خير، ثم يطول بك العمر كفاية لتتمتع بمدخراتك. إسبشر الشيخ من فأل قريبه وأجابه باندفاع سيندم عليه بقية عمره: أقسم بالله العلي العظيم يا ولدي، لو قُمت مما أنا فيه لأصرفن مالي بسخاء ما طال العمر، سأحج بيت اللّه من جديد، وأقيم بعد عودتي مؤدبة أُطعم فيها كل أهل القرية. لن ألبس بعدها إلا الفاخر من الثياب، ولن آكل إلا ما لذّ وطاب …..
قدم الحاج الذهبي طلبه لأداء فريضة الحج سنتين على التوالي لكنه قوبل بالرفض. إذ بعد ثلاثين سنة، تغير الكثير من الأشياء. لم تعد فريضة الحج تستوجب فقط الشروط الخمسة المعروفة، من إسلام وحرية و عقل وبلوغ واستطاعة. بل أصبحت مقرونة بشرط جديد. هو شرط الحظ، حظ تُحدده قرعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، معتمدة في ذلك على برنامج معلوماتي جد متطور لحاسوب كوري الصنع.
عندما كان يتسلم رد الوزارة بالإعتذار، لم يكن يغتاظ، ولا ياسف ولا يبدي أي نوع من الأعتراض حتىّ، بل يقبل الأمر بنفسٍ مطمئنة ويحمد اللّه ، ثم يجيب في حبور من حاول مؤاساته بالحديث الشريف لخير البَرِيّة: إنما الأعمال بالنيات، ولكل ٱمرؤ ما نوى. وما أراني إلاّ قد حججت بصفر درهم.
في السنة الثالثة، بُشّر أن طلبَهُ قد قُبل، وأن عليه الشروع في الدورة التكوينية للحُجٌاج وتلقي التلقيحات الضرورية، ثم إيداع شيك ضمان بمبلغ التعريفة المرجعية للحج الإقتصادي في الحساب البنكي للوزارة، والتي حددتها هذا الموسم في خمسة وأربعين ألف درهم.
أصبح الحاج بعد تلقي جواب الوزارة مُلزما عن رُغمه بأداء الفريضة، و غدا مكرها على إخراج ذلك المبلغ الباهض من حسابه البنكي، ولم يكن ذلك بالأمر الهين عليه، إذ أنه منذ أن فتح حسابه بالبنك الشعبي قبل ثلاثة عقود، لم يسبق له أن سحب منه درهما واحدا. كانت جميع عملياته المصرفية من نوع واحد: عملية إيداع. أما اليوم ، وبسبب وعدٍ أخرق، جهرَ بِهِ وهو في حالة ضعف. بسبب زلّةِ لسان بدَرَت منه وهو في غير وعيه من شدة الألم، وجد نفسه مرغما على سحب ذلك المبلغ الهائل دفعة واحدة. ليتني لم أنطق بكلمة واحدة تلك الليلة أمام إبن أختي المُتزمّت، قال في صمت. بل ليتنى مِتّ قبل هذا كي لا أجِدُني مجبرا على فراق أعز ما أملك، أموالي.
مع دنوّ شهر شوال، ساء حال الحاج. أصبح مشغول البال يجري عشرات الحسابات في ذهنه ثم يعيدها دون ٱنقطاع، أصبح يحاور نفسه بصوت عال طول النهار، لا يفكر إلا في تكلفة نذْره: جواز سفر جديد، ولقاحات بالجُملة، ثم ثمن السفر والمبيت والتنقل بالبقاع المقدسة. ناهيك عما سيظطر لإقتنائه من هدايا مُبَاركة لإكرام عائلته وما ستُكلّفه المأدبة التي سيدعوهم إليها بعد رجوعه.
بعد أيام، تدهورت صحته بعدما فقد شهيته وجافاه النوم، فهزل جسده ولزم الفراش. ولمّا لم يُجدي الدواء الذي وصَفه له الطبيب نفعا، إزدادت حالته سوءا من حسرته على ثمن الدواء الذي ضيعه ولم يأته بشفاء.
عندما اشتد المرض بخاله، لم يجد حسن بُدّا من الإتصال بٱبنيه ليحثّهما على زيارته للمرة الأخيرة قبل فوات الأوان. وكما كان متوقعا، سافر الأخوان على متن أول طائرة لرؤية السيد الوالد. عند وصولهما، أخذاه على وجه السرعة للإستشفاء بإحدى المصحات المشهورة بالعاصمة. بعد الإسعافات الأولية والأشعة والتحاليل المخبرية، إستفسرا الطبيب المعالج الذي طمأنهما عليه وأخبرهما أنه يعاني من انهيار عصبي، ويحتاج فقط أن يخلد للراحة، وأن تكون تغذيته متوازنة مع الإعتناء به وجبر خاطره.
مكث الولَدان مع والدهما لأيام، ووعداه بالتكفّل بجميع صوائر الحج بعدما خَبِروا مُلابسات وَعْكته الصحية، ولم يودِّعاه إلا بعدما شُفي تماما.
تهيأ الحاج الذهبي أخيرا لأداء الفريضة منشرح الصدر، هنِيّ البال، غير أن الأقدار جادت عليه بمهلة إضافية. فقد حل وباء الكوفيد وحل معه هَولُه. أغلقت الأماكن العامة والمدارس ودور العبادة تباعا الى أن جاء الدّور على مكة المكرمة. أغلقت الحدود البرية والبحرية وتوقفت الرّحلات الجوية، وأبلغ المرشحون عبر بلاغ رسمي من الوزارة أن رحلة الحج سترجأ إلى أجل غير مسمىّ ريثما تتحسن الظروف الوبائية العالمية. عندما سَمع الخبر، عقّب الحاج: ونعم بالله، رُبّ ضارة نافعة، وتمنّى في قرارة نفسه أن تدوم الجائحة طويلا فيكسب ثواب نية حجه الجديد دون بذل درهم واحد مما أكرمه به إبناه مؤخرا. وكمواطن صالح، إلتزم بتعليمات السلطات الصحية، وٱحترم التدابير الإحترازية التي أوصت بها بحذافيرها. إقتنى قِنطاري شعير ونصف قنطار قطنيات، وعلبتي شاي ثم لزِم مسكنه، لا يبرحُه إلا لإستخلاص مستحقات كراء أملاكه نهاية كل شهر ، أو لإستلام المنح التي رصدها الدولة، وقررت بعثها عبر البريد للمسجلين من أمثاله في نظام المساعدة الطبية كل ستة أشهر.
مرت الشهور ببطء. وبعد طول ترقب، إستُحدث لقاح فعال ضد الفيروس اللّعين، فسابق الحاج لأخذ الجرعات المجانية الثلاثة المتوفرة بالمركز الصحي للبلدة. وشيئا فشيأ توارى الوباء فبُعث الأمل في النفوس من جديد وعادت الحياة إلى طبيعتها بالتدريج. وفي صبيحة يوم جميل، توصل الحاج بإستدعاء للحضور فوراً لتسلم رسالة عبر البريد المضمون. ظن في البداية أن الأمر يتعلق بحوالة بعث له بها أحد ولديه، أو ربما بمنحة كوفيد إضافية صرفتها وزارة الشؤون الإجتماعية. لكنه عندما وصل المركز، علم أنها في الحقيقة رسالة من وزارة الأوقاف. رسالة قرأها له موظف البريد وبشره بعد اتمام قراءتها بأن رحلة الحج قد إستأنفت هذا الموسم، وأنه من المحظوظين ولن يحتاج الى انتظار نتائج القرعة، لأن حجزه محفوظ منذ سنتين، وأن المستجد الوحيد ، هو مراجعة تكاليف الحج الإقتصادي بسبب تبعات الجائحة، وأنها قد حُددت هذا الموسم في خمسة وستين ألف درهم دون ٱحتساب الرسوم، بدل الخمسة والأربعين ألفا سابقا.
عاد الحاج برسالته الى البيت منكسر الخاطر، متثاقل الخطى من وقع المفاجئة وما صاحبها من تعديلات. حين أدرك البيت، لاحظت الزوجة تغيّر مِزاجه، وعندما استفسرته، أبلغها الخبر بفتور وطلب منها أن تحضر له گأش شاي بعد نصف ساعة، لأنه سيرتاح قليلا في فراشه.
لم تمضي إلا دقائق قبل مجيئ ٱبن أخته حسن، لقد حضر ليهنأه مباشرة بعدما سمع البشرى من فم موظف البريد في المقهى. ما أن فتحت الزوجة له الباب حتى سألها : أين خالي؟, فأجابته بأنه يرتاح قليلا في غرفة نومه، إلا أنه أصرّ مع ذلك على تهنئته في مرقده. دخلا عليه، كلّماه فلم يُجب، ولما تحسسه قريبه، أدرك أنه قد فارق الحياة وصار جثة هامدة… أغلق له عينيه ودعىٰ له بالرحمة والمغفرة، ثم خاطب الأرملة برصانته المعهودة، لا إله إلا اللّه، يبدو أن قلب خالي العليل، لم يقوى على تحمل الفرحة العارمة. إنّا لله وإنا لله راجعون، عزاؤنا واحد.