على وَقعِ أول الأَشعَّة الذهبية المُتسللة من ثُلمةٍ صغيرة في حائِطِ حُجرتِهِ،ٱستيقظَ الشابُ العشرينيُّ (أمجد) ، حاولَ أن ينهضَ من سَريرهِ الحديدي الخَشن لكنه لَمْ يقْوَ على ذلك فقد كانت أطيافُ الوسنِ لا زالتْ تَخِيطُ جُفونهُ وتُثقلُ عضلاتهِ من فرطِ سهدهِ الليلة الماضِيةَ. ومَا إِن تذكَّرَ أنه على موعد غراميٍّ على الساعة العاشرة صَباحا حتى ٱنتفض ٱنتفاضة الأَرْقَطِ في وِجارِهِ، وطَفِقَ يَنْقُفُ عن ساعته اليدوية الوحيدة فوجدها بعدَ لأْيٍ في أحد سراويله الأَخْلاقْ التي لم يبقَ فيها من عملِ الحائكِ باقْ،ولم يملك إلاّ أن يطلق تنهيدة راحة حمَّلها كل الوساوس التي كانت تجولُ في حَنايا صدرهِ،حين تيَقَّنَ أنْ لا زالت ساعتين تفصلهُ عن لقائهِ الموعودِ، ـــــــإن الحب مُستعصٍ على الفهمِ إذ يكفي أن تَنْبعثَ ذرة حب في أعماق النفس حتى تَتَغَيَّر أحوالها وخِلالُها في لمحِ البَصرْ وتتدفقَ فيها الأحاسيسُ الفياضة والجيَّاشةُ تدفق السيل في النَّهرْ ـــــــ وٱحتار في ٱعْتِيامِ اللباسِ الذي يليق بهذا اللقاء وهو نديمُ الفقرِ وخِلُّهُ الوفي وأخذَ يندبُ حظهُ العاثرْ، ويلعنُ نصيبهُ في هذه الحياة العبثية ويتحسر حتى أحس بالعبرات تثقل أجفانه، فلم يملك إلا أن ينفجر باكيا حتى أَرْعَمَ ( سال مخاطه ) من فرط البكاء وسرعان ما استدرك أمره ونَكَفَ الدموعَ عن خَدّيهِ وتسربل في سروال وقميصٍ بُنِّيين أكل عليهما الدهر وشرب وٱنتعل حذاءً يتسع لهموم أشقياء الدنيا طُرًّا ويزيدُ، وٱندفعَ مُهَرولاً من باب حجرتهِ، الأفرغِ من فؤادِ أمِّ موسى، لا يهتمُّ بما يجري من حولهِ ولا يحفل ، حتى وصلَ إلى الحديقة منشؤ أمانيهِ وأحلامهِ الوردية، فسرحَّ بصرهُ في أعطافِ الحديقة ،يُقلبُ في الوجوهِ، يبحثُ عن سارقةِ قلب ولُبِّهِ من دون أن يجدَ لها أثرًا ولا شِيَّة ، فأخذ يفرك عينيه بشدة رَجاةَ التيقن من أنه ليسَ يَعمَهُ ف ي أحلامه الروتينية المعتادة ، فكانت الحقيقةُ المُرّة التي لا يبغيها إِنْسْ، فعادَ أمجدُ القَهقَرى خائبَ الرجى يجر وراءه أذيالَ الخَيبَة، وذهبتْ به وساوسهُ أسوءَ المذاهبِ فهل يا ترى وقعَ لخليلتهِ مكروهٌ حالَ دون لُقياهُمَا؟ أم أنها لم تَجد في شابٍّ صفر اليدين ، مثله ، من الجاهِ والترفِ ما تَنشُده ؟ وأحس بقدميهِ تخونانه فٱقتعدَ أحدَ الأرصفة والشكُّ أخذ يتسرب إلى نفسه الَمَكلومَة إذ ٱسترجع شريط الماضي وتذكر أن خليلته رافقته ذاتَ يومٍ لآستقبال أحدِ خلاّنِه العائد من ديار البذخ والترف، وما وقع بينهما من نظرات تبعث على الريبة والشك ، وفي هذه الأثناء ٱمتقعَ لونهُ وأحسَّ بوطأة الرُّزءِ الجَلَل تشتدُّ وتطردُّ ولا زالتِ الأفكارُ تتهاوى تَتَرى على ذهنهِ حتى ٱنْتشَلتهُ عجوز، استوقفها مَنظرهُ المثير للشفقة، من شرودهِ قائلة : (ما بالُكَ يابني تهذي في واضحة النهارِ ؟ ) فأجابها بٱمتعاض : وهل أنياب الدهر حين تحكم العض تفرق بين بياض وسواد ( ليل ونهار )، فأردفت : لَيْتَ شعري ما بكَ ؟ و أنا أراك في مَيْعَة الشباب وعنفوانهِ؟ ـــــ فجيعة مَلئتْ ما بين السماء والأرض.. هزت أوتار الوجدان وحركت كامن الأشجان..إنّها الخيانة جريا وراء عَفَنِ الدنيا وأدرانِها . ـــــ هكذا إذن… لكن لا تنسَ أن الأتراح تلحقها الأفراح وبعدَ الشقاءِ يأتي النعيمُ ـــــــ ليسَ بعدَ اليومٍ يا أمّاهُ..ليس بعدَ اليومِ.. واحربتاهُ.. ـــــــ أَفصِح يا بني ولا تُلمِّح فقد طار الدهر بلُبِّي فلم أعد أقوى على حل الألغاز وفك الأحجيات. وفي هذه الأثناء هب أمجدُ من ومكانهِ كما يهبُّ المحاربُ في زمنِ الوَغى وٱمْتَطَى هَواهُ مندفعا أمام سيارة كانت قادمة على الأرجح أنها تخطت السرعة المسموح بها مُصيخاً إلى صوتِ العجوزِ الذي ظل يتردد على مسامعهِ ( المصابُ لا يُصيبُ يا بني.. تريث ! ) فقذفتهُ السيارة على إرتفاع بضعة أمتارٍ ، مدة كانت كافية بالنسبة لأمجدَ ليسترجع فيها ذكريات الماضي باكملها وتَمُرُّ أمام ناظريه واحدة تلو الأخرى فرفعه الحنين إلى حياة كاملة في عالم المثل الافلاطوني لكن الواقع غير ذلك فقد نزلت به الجاذبية إلى أديمِ الارضِ وسط دمائهِ البريئة الملوثة بأدران الغدر والخيانة لترتفع مجددا روحه النقية الطاهرة التي لا تشوبها شائبة ، إلى حيث لا يعرفُ عارف ولا يدركُ مدرك. وٱستمرت العجوز في سبيلها وهي تردد في نفسها : ( وحدهُ الذي لا يُحبُّ يستخدمُ عقله بشكل سليم )
المهدي الزعلي من المغرب ( عين تاوجدات )