كان سندي، غيبته الأقدار عني ليرقد تحت الثرى مخلفا ذكرى أثيرة إلى نفسي لا أدري لماذا أندبه اليوم وقد مضى على رحيله ثلاث سنوات، مضت كئيبة، مملة، ثقيلة، بطيئة، قاسية، جارحة، فتكت بقلبي فهوى. أنظر إلى طفلي، اليوم يتم عامه السادس، أي سيلتحق بالمدرسة ليخطو أولى خطواته نحو مستقبل مبهم، كنت أصطحبه معي إلى بعض البيوت التي أعمل بها كخادمة لقاء أجر زهيد، أسدد فيه أجرة منزلي، وأبذل جهدا مضاعفا لأكسب ما يسد رمقنا ويقيم أودنا فلا نهلك، والمدرسة عبء جديد على كاهلي سيضطرني لأضاعف جهودي في البحث عن بيوت جديدة أخدمها فكان بيت صاحب العمارة التي أسكنها، هد الكهل، الورع، التقي الذي ما أن شعر بضيق حالي حتى عرض علي العمل لأعد له وليمة دعا إليها بعض أصدقائه. سررت وبذلت جهدي، ووضعت لمساتي وتفننت في إعداد الطعام مع أني كنت خائفة أن أمارس هذا العمل بعد انقطاع أنتم تدركون أسبابه. سُر الرجل وتعاطف معي إذ انه يدرك مصابي بعد أن خاض تجربتي عندما ماتت زوجته وبقي وحيدا الفرق بيننا أنني فقدت معيلي، بينما هو فقد أنيسه. حضر الأصدقاء، تفانيت في خدمتهم، ولملمت بقايا الأكل عن المائدة إذ بسيدي صاحب الوليمة يهمس في أذني قائلا: لا تلقي هذه البقايا في النفاية، بل إجمعيها وخذيها إلى بيتك لتأكلي مع ولدك، قال هذا والتحق بضيوفه يتسامرون، أما أنا فقد تسمرت في مكاني من المفاجاة، وسالت دموعي، ثم نظرت إلى الطعام باشمئزاز وقرف، ومع ذلك جمعته في كيس، إنه كان يكفي ليقيم أودنا هذا اليوم واليوم الذي يليه، ولكني أشعر بالمهانة… في الحقيقة أنا لم أتجرأ واقتطع لنفسي حصة من الطعام، كنت انتظر هذه الدعوة من سيدي، فأتت جارحة تذبحني، مهيئة تذلني، ولكني مضطرة لقبولها. وضعتها أمام طفلي، أشرقت أساريره وابتسم ونظر إلى مستفسراء قلت: دونك الأكل يا ولدي ، كل. تناول طعامه بشراهة وسعادة، لم أشاركه الطعام، كنت سعيدة من أجله، ولكني كنت تعيسة أيضا، كنت مطعونة بنصل سكين ينغرس في قلبي، ومع كل لقمة يبتلعها صغيري يغور السكين إلى أعماقي ويفتك بي، سالت دموعي وأنا أراقبه، انتهى من طعامه، كان سعيدا، أما أنا فأجهشت بالبكاء، نظر إلى صغيري مستغربا وقال: هل غضبت لاني اكلت كثيرا، انا لم اقصد…لكن الاكل لذيذ، تضاعف حزني، وبكيت اكثر، والصغير جالس امامي، ينظر الي بحزن، وانا لا اعرف كيف اعلل له سبب بكائي…