الدكتور ياسين/ بقلم:د.عبد الإله وادي (المغرب)

بعد صلاة العشاء، لبس السيد ياسين بذلته السوداء الأنيقة وإنتصب أمام المرٱة. ثبّت ربطة عنقه بعناية، فتل شاربه، سرّح ما تبقى من شعرٍ رمادي على رأسه الأجلح، رش بخّاخ طِيب العود بسخاء على عنقه وكتفيه ثم غادر الشقة. بالطابق الأرضي، بادل بعد الكلمات مع حارس العمارة العجوز قبل أن ينزل الى المرٱب التّحتِ أرضي ويستقِلّ سيارته الإقتصادية.
إستغرقت رحلة وصوله لذلك الحي الشعبي المتاخم للعاصمة زهاء نصف ساعة. لم يجد عناء كبيرا في العثور على العنوان. إذ كان صوت المقرئين يُسمع من مدخل الشارع الرئيسي بفضل مكبرات الصوت. أما الخيمة الكبيرة المنصوبة للمناسبة، فكانت ترى من بعيد. غير أنه، بعدما عجز عن التقدم نحوها بسبب الإكتضاض الكبير الذي صادفه في الشارع. قرر أن يركُن سيارته بعيدا ويكمل المسير راجلا…
ما إن أوقف المحرك حتى ٱقترب منه شاب عشريني طويل القامة، ممتلئ الجسد، أسمر البشرة، بشارب محفوف ولحية كثة مطلوقة تكاد تخفي كل ندوب وجهه. دنا منه ذلك الشاب الذي كان يضع سترة صفراء فوق زيه الأفغاني ويعلّق بمعصمه بواسطة حبل قصير عصا من خشب الصنوبر.
مساء الخير ياعم قال…
رد السيد ياسين السلام وبدا متوجسا قليلا من هيئة الشاب وممّا بيمناه. فرفع هذا الأخير عصاه وقال بنبرة لاتخلو من إستفزاز…. لاتجزع يا عمّ، إنها فقط من لوازم العمل. فحراسة السيارات مهنة قد تكون خطرة ليلا…
أجابه بلباقة مفتعلة… أعانك اللّه على عملك بُني ثم هم بالإنصراف. إلا أن الشاب ٱستوقفه بسؤاله هل ستبيت السيارة أم ستغادر الليلة؟.
قال بل سأغادر .
إذاً هي خمسة دراهم ، والدّفع مسبقا عقّب الشاب الملتحي.
إمتثل السيد ياسين دون تفاوض، ومد القطعة النقدية وقال لمحاوره اتقائا لشرِّه المُحتمل. أنا هنا يا ولدي من أجل العزاء.
عندها، غير الشاب نبرة صوته وٱسترسل في الكلام : العزاء، أنت حتما تقصد عزاء العم الشتوكي رحمه اللّه. أنظر،… الخيمة منصوبة هناك في ٱخر الشارع على يمينك. واللّه لقد أحزنني كثيرا خبر وفاته. كان شيخا حنونا وجد مسالم. يعيش من بيع الحلويات للأطفال. لقد أسعدنا جميعا في صغرنا. كان رحمة اللُه عليه يصنع أصنافا لذيذة من الحلوى بيديه ويعرضها على طاولته الخشبية الصغيرة في رأس الدّرب. يبيعنا إياها بثمن بخس، بل ويُكرمنا من وقت لأخر ببعض منها دون مقابل إذا لم تتوفر لدينا النقود. كان يعيش وحيدا، بلا أهل، ولم يعلَم له أحدٌ أقارب البتّة. قدِم الحي منذ أكثر من عشرين سنة وٱكترى بيتا صغيرا في سطح عمارة الحاج البشير. بيت من غرفة وحيدة، إستقر بها منذ ذلك الحين وواضب على أداء واجب الكراء بانتظام. كان يعمل طول نهاره ثم يأوي اليها خلسة كي لا يختلط بأحد. ألف ألف رحمة عليه….
بعد صمت قصير، واصل الشاب بحسرة…. لكن المؤسف في القصة يا عمّ، هو أن بعض الجيران يجزِمون أنه مات جوعا في بيته. فبعدما أعجزه كسرُ الورك الذي تعرض له في سلم العمارة عن العمل. لم يقدر المسكين على مصاريف العملية المُكلفة ولزم مسكنه الى أن انطفأت شمعته في صمت…. منذ يومين فقط، وجده صاحب العمارة بين الحياة والموت عندما زاره لإستخلاص واجب الكراء نهاية الشهر. ورغم نقله للمستشفى الجامعي . فقد ودّع الحياة هناك. لأن هُزاله وشفوف جسمه كان متقدما، فتمكن الوهن منه وأجهز عليه. رحمه اللّه وأسكنه فسيح جنانه….
كان الشارع رغم انسدال الليل يعُجّ بالمارّة و المتسوقين والباعة. باعة متجولون،
وأنصاف متجولين ممن يركنون عرباتهم و سياراتهم جانبا و يفرشون الطوار وجنبات الطريق بقطع كرتون كبيرة….. يعرضون فوقها سلعهم المختلفة . من خضر . وملابس داخلية ، ومنتجات صينية الصنع بألوان وأشكال جذابة. ينادون على الزبناء بأعلى الأصوات ويحثونهم على ٱغتنام فرص عروضهم الخاصة على إيقاعات موسيقية متداخلة من فن الرّاي و العيطة والأهازيج الأمازيغية …

تقدم السيد ياسين بأناة وسط تلك الأمواج البشرية ،وعندما أدرك الخيمة، وجد الحاج البشير برفقة شيخَين مسنَّينن من سكان العمارة في استقباله. لقد كوّن الثلاثة لجنة التكفّل بمصاريف الدفن والمأتم بعدما جمعوا مساهمات من سكان العمارة وبعض الجيران الميسورين في الحي، فجميعهم يؤمنون شديد الإيمان بأن إكرام الميت دفنه.
سلم على مستقبليه بحرارة قائلا … إنا لله وإنا إليه راجعون . عزاؤنا واحد في المرحوم .
عشّر الله خُطاكم دكتور رد الحاج. شكرا لمساعدتك، لقد أسديت لنا خدمة كبيرة ، بارك اللّه فيك بُني….
واصل الحاج معه الحديث لدقائق، و بعدما أغدق عليه الكثير من مقبولِ الدعوات، إصطحبه الى داخل الخيمة واختار إجلاسه في الطاولة الجانبية المُميَّزة. طاولة مخصصة لأعضاء فرقة الإنشاد. قرّب له الكرسي ودعاه للجلوس مردِّدا، تفضل دكتور. ألف مرحىٰ….

كان رئيس الفرقة يؤدي موّالا لأحد الأمداح النبوية عندما جلس الضيف الوافد . إبتسم في وجهه وأومأ بعينيه للترحيب به دون التوقف لكي لا يُضيع النوته…
كان رجلا خمسينيا أبيض البشرة مستدير الوجه يلف رأسه بعمامة رمادية أنيقة، كان قصير القامة، بجسد بض يميل للسمنة. جلبابه الأصفر المخطط بخطوط ذهبية وأخرى رمادية يشي برفاعة الثوب وغلاء ثمنه، ويُميزه بسهولة عن باقي المنشدين الذين كانو بزي موحّد : جلاليب بيضاء وطرابيش مغربية مخملية بلونٍ عقيقي .

تناوب أعضاء الفرقة على تقديم فقَرات الأمسية الدينية، من تجويد آيات قرآنية كريمة وأمداح ووصلات إنشاد وذكر مختلفة. كان رئيس الفرقة ينظم الفقرات ويضبط الإيقاع عند الضرورة بحركات محددة لبنان يده اليمنى .
بين الفينة والأخرى كان يتسلّم كأس شاي بدون سكر من أحد نُدُل مُموّن الحفلات المكلف بالمأدبة. أما حصته من المكسرات والحلويات التي تعرض على الضيوف بشكل دوري. فلا يأكل منها شيئا كما يفعل غيره. بل يكتفي بوضعها في صحون وَرقِية يُجمِّعها أمامه .
إغتنم رئيس الفرقة فترة الإستراحة التي سبقت بقليل تقديم الطبق الأول من وجبة العشاء ليمازح السيد ياسين . قال بدعابة بعد أن عدّ مفارش الطاولة وواقياتها. ..هي وجبتان فقط!!!….اذا، لا حمية الليلة دكتور….
إبتسم ياسين وأجاب بخجل … المهم أن يأكل الإنسان بمقدار، ويمضغ لقمته جيدا، فوظيفة الأسنان أساسية للحفاظ على صحة المعدة.
عقب الفقيه مبتسما…. تلك بالظبط هي مشكلتي الليلة…. لقد نسيت طقم أسناني في البيت، فوجدتُني الأن في ورطة. ساظطر لحمل حصتي معي….
عندما قُدّم طبق الخروف المشوي وهمّ الجميع بالإنقضاض عليه، أخرج السيد ياسين علبة أرجوانية من جيب معطفه وناولها للفقيه وقال …جرب هذا …
فتح العلبة والدهشة تعتلي قسمات وجهه. وجد بها طقم أسنان جميل ملفوف في غلاف بلاستيكي شفاف . أخرجه منه ووضعه في فمه ثم حرك فكيه عدة مرّات قبل أن يبتسم في وجه مُنقذه ويقول فرِحًا …..إنه جيد … بل أكثر من جيد …مضبوط القياس.. إنه بحق أنسب وأريح لي من طقمي القديم.
علّق السيد ياسين : على الرحب والسعه.كُلْ هنيئا… وإن وافقك ، يمكنك الإحتفاظ به. سيسعدني ذلك.
شكره الفقيه ثم التحق بمن سبقه للوجبة. أنفَذ يده داخل الخروف غير مكترث بسخونته العالية وتمكن من انتزاع كِليتِه كاملةً بين غمضة عين وانتباهتها. أبدى سعادة كبيرة ، بل إفتخار كبيرا بدقة حركته ثم ردّد جملته المفضلة… سأبوح لك يا عزيزي بأحد أسرار المهنة … يجب البدء دائما بأطيب ما في الضأن” كليته.”…
أثارت تلك الجملة المبتذَلة شفقة السيد ياسين على الرّجل أكثر من إعجابه به، فاكتفى بابتسامة محتشمه ثم واصل الأكل بِرَويّة وهو يتابع في ذهول طريقة تحامله
على الخروف وقدرته الفائقة على ٱلتهام كمية مدهِشةٍ من لحم الخروف ولحم دجاج الطبق الثاني ، ثم الفواكه المختلفة، ثم قطعا غير صغيرة من الحلوى. أمام هذا المشهد
الذي اثار امتعاضه، تراءت له فجأةً صورة العم الشتوكي. تراءت له واضحة وكأنه أمام عينيه حي يرزق ، ففزع وتسائل في صمت لعله يهتدي الى سبب وجيه لرؤيته. لم يجد جوابا شافيا…. ثم تذكر حديث صاحب السترة الصفراء وقال لنفسه…. لا أدري.. ربما لأن العم الشتوكي ، من لطافة خُبثه، … أراد أن يتسبب في تخمة من أكل بنَهم في مأتمه، فتكون التُّخمة بذلك انتقاما لموته جوعا.

في ختام المأدبة وبعد گأس الشاي الأخير … ألقىٰ الفقيه درسا قصيرا يذكر فيه بسُنة اللّه في خلقه، فهو الذي خلق الموت والحياة ليبلُوَ عباده أيّهم أحسن عملا، و هو الذي جعل الدنيا وإن طالت، دار فناء، و هو الذي قدّر للآخرة أن تكون دار البقاء. والمؤمن الحق مُلزَم بالبِرّ والإحسان والإنفاق مما رُزق من قبل أن يأتيه الموت …. والمؤمن الفطِن الكيّس هو من يغتنم حياته للإنفاق قبل موته. لأن المرء إذا مات، إنقطع عمله إلا من ثلاث :”صدقة جارية. علم يُنتفع به، أو ولد يدعو له” كما جاء في حديث أشرف المرسلين.
أنهى الفقيه الدرس بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم وأردف بمجموعة أدعية تلائم المناسبة وهو يقلِّب بصرَه نحو الضيوف تباعا ليحفزهم بنظراته الجريئة المستفزة على المساهمة بإكراميات إضافية لفائدة فرقته كما جرت العادة …..

بينما كان رئيس الفرقة منشغلا في ٱخر الحفل بتوزيع بطائق زيارة فرقته ويُسطّر على رقم الهاتف والعنوان الإلكتروني على “الإنستاغرام” ، إنسحب السيد ياسين الى خارج الخيمة، فلحق
به الرئيس ليودّعه. وقبل رحيله، شكره من جديد على الطقم وأثنى على جودته، ثم طلب منه أن يترك له رقم هاتفه وعنوان عيادته قائلا… إنك والله بدون مجاملة طبيب أسنان ممتاز . تشرفت بمعرفتك…. سأبعث لك بكل معارفي . أنا متأكد أنهم لن يجدوا أجود من مما تصنع من أطقم الأسنان…
قاطعه السيد ياسين والضحكة تغالبه….. عذرا سيدي الفقيه

لا… لست طبيب أسنان ، لا…لست طبيبا أصلا….
ماذا…. رد الفقيه.لكنني سمعت الحاج يناديك بالدكتور ….
عندها أدرك السيد ياسين حجم سوء التفاهم الكبير فعقّب متحرّجا… عذرا على ما وقع من اُلتباس …. ربما يظنني الحاج كذلك من سذاجته لأنني أشتغل بالمستشفى….. ولكن في الحقيقة.. أنا موظف بسيط بالمشرحة ، أقوم بغسل موتى المسلمين الرجال، ولقد ساعدته على تسلّم جثة المرحوم موفرا عليه الإجراءات المعقدة نظرا لعدم تواجد ذويه.

بدا رئيس الفرقة مندهشا ونبس… ولكن …. وطقم الأسنان الجديد؟؟؟
تبسم السيد ياسين… وشرع يشرح الأمر بالتفصيل ليبدّد حيرة مُحاوره….: عندما أغسل الجثة… إن أنا وجدت عليها طقم أسنان بحالة جيدة، أقوم بتنظيفه جيدا وتعقيمه ثم وضعه في علبة محترمة وأحتفظ بها لمناسبات كهذه.
من يدري؟ … قد يسعف الطّقم أحدهم خلال مأدبة المأتم. وإن هو وافقه، وقرر أخذه واستعماله لاحقا. ستُكتب للمرحوم صدقة جارية ما مُضِغت لقمةٌ بفضله…

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!