الرقابة لسماح ادريس وقصة جنرال في مكتبة لايتالو كالفينو

لصحيفة آفاق حرة.

 

 

الرقابة لسماح ادريس وقصة جنرال في مكتبة لايتالو كالفينو

 

من اختيارات. محمد زعل السلوم

 

اخترت للراحل سماح ادريس البيروتي الأصيل ورئيس تحرير مجلة الآداب العظيمة مقالة (الرقابة) التي نشرها بافتتاحية الآداب نوفمبر ١٩٩٦ ليقول : (إضافة لقصة ايتالو كالفينو جنرال في مكتبة التي ذكرها بمقاله)
خصصت مجلة Index on Censorship عددها الأخير ( نوفمبر / ديسمبر ١٩٩٦ ) لقصص منعتها أجهزة الرقابة في عدد من بلدان العالم، وفي فترات مختلفة من القرن العشرين. وقد لفتت نظري قصة ايتالو كـالـفـيـنـو «جنرال في مكـتـبـة» التي تـصـدرت قصص المجلة المذكورة. والجدير ذكره أن كـالفينو روائي وقصاص وصـحـافـي كـوبي الأصل، لكنه ترعرع في إيطاليا و كـان عـضـوا في حركة الأنصار أثناء الاحتلال الألماني لشمالي إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. وقد رأيت أن أشـرك القـارئ في قـراءة هذه القصة، لا لذكـائهـا، ورهافة حسها، ومرحها اللاذع حتى تخوم اللوعة، ونافذية بصيرتها إلى قوة الكلمة – في وقت كثر فيه الحديث المتعسف وغير الدقيق عن «موت المثقف»، و «أوهام النخبة» و «نهاية التاريخ» – فحسب … بل ( وهنا بيت القصيد ) لأن هذه القصة تشرع الأفق على أسئلة الكتابة العربية ذاتهـا : عن حـال الرقابة العربية العـشـوائية إلى حدود العبث وجنون الارتياب ( الپارانويا )، وعن حـال المثقفين العرب الموالين والمعارضين والسائرين على الجسور والحبال، وعن حـال العسكر الذين يـتـحـولون (بين ليلة و”ضـواحـيـهـا” كـمـا يـقـول زياد الرحـبـاني ) إلى مـثـقـفين ومنظرين، وعن إمكانية العمل الثقافي المعارض (أو الاعتراضي، على الأقل) من داخل جهاز الدولة القامع. وإذ أنقل هذه القصة إلى اللغة العربية، وأطرح عليها (في خاتمتها) أسـئلتنا “العـربـيـة”، فـإنني أعي أنني قد ارتكبت نوعـا مـن الخـطيـنـة النقدية : بإلصاقها في بيئة غير البيئة التي نبتت فيها، ومنها استوحت نسغها واخضرارها ورموزها، على اعتبار أن المؤلفين «كائنون إلى حد بعيد في تاريخ مـجـتـمـعـاتـهم، يشكلونه ويتشكلون به، كـمـا قـال ادوارد سعيد ( الثقافة والامبريالية، ص 50 ). ومع ذلك فإن النص الأدبي وغير الأدبي ما إن ينشـر حتى يصبح ملكا لجميع القراء، يقرأونه بعيونهم لا بعين المؤلف، ويسقطون عـلـيـه مـا شـاء لـهـم إسـقـاطـه : أمـالا وخـيـبـات وسخريات. ويحضرني في هذا المجـال مـا قـاله ساعي البريد لشـاعـر التشيلي العظيم پابلو نيرودا في فيلم II Postino : «إن القصيدة ليست ملكا للشاعر، بل هي ملك لكل من يحتاج إليها! .. وأخيرا، فإني أحرص على أن يقرأ هذه القصة العاملون في أجهزة الرقابة العربية، وهم – بالمناسبة – من أشد قراء الآداب إخلاصا ونبشأ وتفكيكا وتمزيقا ومصادرة وتشاطرا، إلى يومها هذا الذي تودع فيه عـامـهـا الرابع والأربعين وتدخل عـامـهـا الخـامس والأربعين بمزيج متعاظم من اليأس والخشية والألم والأمل والتحدي والفرح. ومـرد هذا لا يـعـود إلى الرغبة في استثارتهم ودغـدغـتهم (أتراهم يتخلون – ولو لحظة – عن وقارهم الأخلاقوي البوليسي الممجوج؟)، ولا إلى دعـوتهم إلى الـرافـة بالمواطن العربي الذي يتحملون مسؤولية كبيرة في تأخره وإفقاده الحس بكرامته وحريته وإنسانيته، ولا إلى مناشدتهم الرفق بالكاتب العربي (الذي بلغ تذويته واستبطائه للقمع والرقابة أن راح ينفي إخضاعه ما يكتبه للمراقبة الذاتية!)، ولا أملا في أن يتحولوا بعد هذه العقود الطويلة من القص والتشطيب والتنتيف من بصاصين» (بلغـة جـمـال الـغـيـطـاني) إلى قـراء (مـحـض قـراء، يا ناس!) … وإنما … وإنما ماذا؟

جـنـرال فـي مكتبة
إيتالو كـالـفـينو
ذات يوم، في دولة «باندوريا» الشـهـيـرة تسلل إلى عـقـول الموظفين الرسميين الأعلين شك : في أن الكتب [ عامة ] تحتوي آراء معادية للـهـيـبـة العسكرية. والواقع أن المحـاكـمـات والتحقيقات قد كشفت أن الميل، المنتشر اليوم، إلى اعتبار الجنرالات أناساً قادرين بالفعل على ارتكاب الأخطاء والتسبب في حصول الكوارث، وإلى اعتبار الحروب أفعالاً لا تؤدي دوماً إلى هجوم فرسان رائع باتجاه قدر مجيد، إنما هو ميل يتبناه عدد كبير من الكتب القديمة والحديثة، الأجنبية والپاندورية على حد سواء. اجتمع اركان حرب پاندوريا لتقييم الوضع. لكنهم لـم يـعـرفـوا من أين يبـداون، لأن أحـدأ منهم لم يكن ضليعاً في الأمور البيبليوغرافية. فتشكلت لجنة تحقيق برئاسة الجنرال «فيدينا»، وهـو مـوظف صـارم وشديد التدقيق، مهمتها فحص كل الكتب في أضخم مكتبة في باندوريا. كانت المكتبة تقع في بناء قـديم مليء بالأعـمـدة والأدراج، حيطانه تتـقـشـر بل تتـصـدع هنا وهنالك. وكـانـت غـرفـهـا البـاردة مكتظة بالكتب حـتى حـدود الانفـجـار، وبعض أنحـائـهـا عـصـيـة على البلوغ، لا تستطيع أن ترود بعض زواياها سـوى الـفـنـران. ولما كـانـت مــيزانيـة دولة پاندوريا مـثـقلة بالمصـاريف العسكرية، فـقـد تـعـذر على هذه الدولة أن تقدم أية معونة.
احتل العسكريون المكتبة ذات صباح معطر من تشرين الثاني ( نوفـمـبـر ). نزل الجنرال عن صـهـوة جواده، قصيراً ثخيناً متيبساً، عنقه الثخينة حليقة، وحاجباه مقطبـان فـوق نظارة انفية. أربعة ملازمين أوائل طوال هزيلون، ذقـونهم مـرفـوعـة إلى الأعلى وجـفـونـهم مـقـوسـة كـالأبراج، ترجلوا من سيارة، كل يحـمـل حـقـيـبـة جلدية في يده. ثم جـاءت سرية من الجنود، فحطت الرحال في الفناء القديم، ومعهم بغال، ورزم تبن، وخـيم، ووسـائل للطبخ، وجـهـاز إرسـال، ورايات للإشارة والتحذير.
نصب الحراس أمام الأبواب، وعليها وضع أيضاً تنبـيـه يحظر الناس من الدخـول «طول المدة التي تستغرقها مناورات تجري الآن على نطاق واسع». وقد كان ذلك ذريعة تسمح لعملية البحث بأن تتم في سرية كبيرة. وكان على العلماء الباحثين – الذين اعتادوا الذهاب إلى المكتبة كل صباح، مرتدین معاطف ثقيلة، وملاحف أعناق وقلانيس ضافية، كيلا يتجمدوا من البـرد – ان يعـودوا إلى البيت من جـديد. وكـانوا يتساءلون في حيرة : «ما تراها تكون هذه المناورات ذات النطاق الواسع في المكتـبـة؟ الن يخـربوا المكان؟ والفرسان؟ هل سيطلقون النار أيضاً؟».
لم يحتفظ العسكر من موظفي المكتبة وإدارييها إلا برجل مسن صغير. هو سينيور كريسپينو، لكي يكون في وسعه أن يشرح للضباط كيف رتبت الكتب. وكان کریسپینو شخصاً قصيراً بعض الشيء، ذا رأس أصلع بيضاوي الشكل وعينين أشـبـه برأسي دبوس خلف نظارتيه.
وكـان الجنرال «فـدينا» معنياً أولا وقبل كل شيء ب”لوجستيات” العملية، إذ قضت أوامره بأن لا يغادر أعضاء اللجنة المكتبة قبل الانتهاء من التحقيق؛ فتلك مهمة تتطلب التركيز وينبغي ألا يسمحوا لأنفسهم بالذهول عنهـا. وهكذا جلبت مـؤن، وأفـران ثكنات ومخزون وافر من حطب الوقود؛ وإلى هذه جلبت أيضاً بعض مـجـمـوعـات من مـجـلات قديمة اعتبرت غير مـشـوقـة عـمـومـاً. ولم تكن المكتبة من قبل بمثل هذا الدفء فـي فـصـل الشـتـاء، ونـصـبـت أسـرة من قش للجنرال وضـبـاطه في نواح آمنة مـحـاطة بمصـائد للفئران. أسندت المهام إلى العسكر، فخص كل ملازم أول بفرع واحد من المعرفة، وبقرن واحد من التاريخ، وكان للجنرال أن يشـرف على فـرز الكتب ولصق طابع مطاطي ملائم عليها، وذلك بحسب الحكم الصادر على كل منها : ما إذا كان مناسباً للضباط والضباط غير المفوضين والجنود العـاديين، أم كـانت إحـالثـه على المحكمة العسكرية واجبة.
وبدأت اللجنة المهـمـة المنوطة بهـا فـراح جـهـاز الإرسال ينقل كل مـسـاء تقرير الجنرال «فدينا» إلى قيادة الأركان : «لقد فحص كذا كتاباً اليوم، وتم إلقاء القبض على كذا كـتـاباً للشبـهـة، وأعلن كـذا كـتـاباً صالحاً للضباط والجنود». ونادراً ما رافق هذه الأرقام الباردة أمـر خـارج عن المألوف : من مـثل طلب نظارات جديدة لتصحيح قصر نظر ضابط كسر نظاراته [القديمة]، أو خبر مؤداه أن بغلا أكل نسخة مهملة من مخطوطة نادرة للمؤلف الروماني شيشرون.
غير أن تطورات ذات شأن أعظم راحت تجري في هذه الأثناء، دون أن ينقل الجـهـاز أي خـبر عنهـا على الإطلاق. فبدلاً من أن تنقص غابة الكتب، فإنها جعلت تتشابك أكثر أكثر وتنمو بخفاء مهدد غادر. وكان الضباط سيضلون طريقهم لولا مـسـاعـدة سـينيـور کریسپينو، فالملازم أول أبروجاتي، مثلاً، هب ذات يوم فرمى بالكتاب الذي كان يقراه على الطاولة [صائحاً] : «إن هذا أمر شنيع فظيع! كتاب عن الحروب القرطاجية يمتدح القرطاجيين وينتقد الرومانيين؟! يجب كتابة تقـرير عنه فـوراً» (هنا يجب أن نقرر أن الباندوريين كانوا يعتبرون أنفسهم متحدرين من الرومان، بغض النظر عن صحة هذا الاعتقاد أم خطئه)، فأتاه المكتبي المسن، وهو يمشي بهدوء على خفيه الطريين، ليقول : وليس هذا مما يعتد به، بل اقرأ ما كتب عن الرومان هنا أيضاً، فبوسعك أن تضيفه إلى تقريرك. واقرأ هذا، واقـرأ ذاك»، عارضاً عليـه كـومـة من الكتب. فـتـصـفـح الملازم الكتب بعـصـبـيـة، وإذ أثاره الأمـر طفق يقـراء ويدون مـلاحظاته. وكـان يـحك رأسـه ويـهـمـهـم : «بحق السماء! أية أمـور تتعلمها! من كان سيتوقع هذا!».
ومرة ذهب سينيور كريسپينو إلى الملازم أول لوتشتي، وكان هذا يطبق كتاباً كبيراً في غيظ، [ صارخاً ] : «اية أشيـاء طريفـة هي هذه لقـد كـان أولئك الناس من الجـراءة والوقـاحـة بحـيث شكوا في نقاء المثل التي الهمت الحملات الصليبية؛ أي نعم، الحملات الصليبية نفسها!» فقال کریسپینو مبتسماً : «أه، ولكن انظر. إذا كان عليك أن تكتب تقريراً عن هذا الموضوع، فاسمح لي أن أقـتـرح بضعة كتب أخـرى تقـدم لك تفـاصـيـل إضـافـيـة»، وأنزل من الكتب سعة نصف رف كامل. انحنى الملازم أول لوتشتي إلى الأمام [حيث الكتب]، فعلق، وكنت على مدى أسبوع تسمعه يقلب الصفحات بسـرعـة، وهـو يـغـمـغـم : «بيـد أن هذه الحـمـلات الصليبية … فلأقر أن هذا أمر طريف جدا!».

كان عدد الكتب الخاضعة للتحقيق يزداد في تقرير اللجنة المسائي، غير أن أعضاءها توقفوا عن تقديم أرقـام للكتب بحسب مـا نـالته من أحكام إيجابية أو سلبية. واضطجعت طوابع الجنرال «فيدينا، المطاطية دونمـا عـمل. ولو حـدث أن راجـع عـمـل مـلازم من الملازمين الأوائل سـائلا إياه : «وكـيف أجـزت هذه الرواية؟ فـالجنود فـيـهـا يظهـرون أفـضـل حـالاً من الضـبـاط إن هذا المؤلف لا يـحـتـرم الـتـراتبـيـة على الإطلاق!»، لأجابه الملازم بالاستشهاد بمؤلفين آخرين، وبالتخبط على غير هدى في أمور تاريخية وفلسفية واقـتـصـادية، وكان هذا يؤدي إلى نقـاشـات مـفـتـوحـة تستغرق ساعات وساعات. وكان سينيور كريسپينو يمشي بهدوء فـي خـفـيـه، يكاد لا يبين في قـمـيـصـه الرمادي، ليلتحق بالنقاش في اللحظة الصـائبـة على الدوام، عـارضـاً على الجمع بعض الكتب التي كـان يشعر أنها تحـتـوي معلومات مشوقة عن الموضوع المطروح للتـامل. وكـان أثر هذه المعلومـات يـقـوض من قناعات الجنرال «فدينا» على الدوام.
في هذه الأثناء لم يكن أمـام الجنود مـا يفـعلـونه وراحوا يشعرون بالسأم، فسأل الضباط واحد منهم، واسمه بارباستو، وهو أكثرهم علماً، عن كتاب ليقراه. فأرادوا في بادئ الأمر أن يعطوه كتاباً من الكتب القليلة التي صرح بأنها ملائمة للجنود. ولكن الجنرال، حين تذكـر الاف المجلدات التي مـاتزال تنتظر الامـتـحـان والتـحـقـيـق، كـره أن تضـيـع سـاعـات الجندي بارباستو القرائية لغير قضية الواجب [ القومي ]، فأعطاه كتاباً لم يمتحن بعـد : رواية بدت سهلة بما فـيـه الكفاية؛ وكـان سينيور كريسبينو هو من اقترحها. وكان على باربستو ان يكتب تقريراً للجنرال عن هذا الكتاب بعد قراءته. وقد طلب جنود أخرون مـثل طلب بارباستو، ومنحوا المهمة ذاتها. وقرأ الجندي توماسون بصوت عال لجندي زميل لا يستطيع القراءة، وكان هذا يدلي بأرائه إليه. وشرع الجنود يشـاركـون فـي النقـاشـات المفـتـوحـة إلى جـانب الضباط.

لا يعرف الكثير عن سير عمل اللجنة؛ فلم يكن ثمة تقرير عما حدث في المكتبـة خـلال أسابيع الشـتاء الطويلة. كل مـا نعـرفـه هـو أن تقارير الجنرال «فدينا» المرسلة عبر الجهاز إلى مركز قيادة الأركان العامة قد خف انتظامها تدريجاً، إلى أن توقـفـت نهائياً. انزعج رئيس الأركان؛ وأرسل عبر الجهاز أمراً بإنهاء التحقيق في أسرع وقت ممكن، وبعرض تقرير كامل ومفصل عنه.
في المكتبة، أوقع الأمر العسكري عـقـول الجنرال «فدينا» ورجاله فريسة لمشاعر متناقضة. فمن جهة اولى كانوا يكتشفون بشكل ثابت اهتمامات جديدة ينبغي إرضاؤها، وكانوا يستمتعون بما يقرأونه من كتب ودراسات أكثر مما كانوا قد تخيلوه في أي يوم على الإطلاق … ومن جهة أخرى كانوا يتحرقون للعودة إلى العالم من جديد، لاعتناق الحياة : وهما عالم وحياة يبدوان الآن أكثر تعقيداً بكثير، فكأنهما تجددا امام أمهات أعينهم … ومن جهة ثالثة كان تسارع دنو ذلك اليوم الذي سيضطرون فـيـه إلى مـغـادرة المكتـبـة يملاهم بالخشية والتوجس؛ فقد كان عليهم أن يقدموا تقريراً عن مهمتهم، ولكنهم – على الرغم من كل الأفكار التي راحت تزيد وتبقبق فـي عـقـولهم – لـم يكونوا يملكون فكرة واحـدة عن كـيـفـيـة الـخـروج من مـأزق كـان قـد اضحى ضيقاً جداً بحق.
في الأمسيات كانوا ينظرون من خلل النوافذ إلى براعم الأغصان الأولى وهي تتوهج في الغروب، وإلى الأنوار تضـوى في القرية، في الوقت الذي يتلو فـيـه أحدهم الشعر بصوت عال، لم يكن «فدينا» معهم : فقد أعطى أمرأ بوجوب تركه وحيداً أمام طاولته لكي يضع مسودة التقرير النهائي، ولكن الجرس كان يرن بين الفينة والأخرى، ويسمعه الآخرون ينادي : «كريسپينو ! كريسپينوا» . فهو لم يستطع أن يصل إلى أي نتيجة بدون مـعـونة المكتبي المسن، وانتهي الأمـر بـأن جلس الاثنان إلى الطاولة نفسها ليكتبا التقرير معاً.

ذات صباح نير، غادرت اللجنة المكتبـة أخيراً، وذهبت لثـبلـغ تقـريرها إلى رئيس الأركـان، وشـرح «فدينا، نتائج التحقيق أمام مجلس الأركان العامة. كان خطابه نوعاً من الخلاصـة للتاريخ البشري، من بداياته الأولى إلى يومنا الحـاضـر، وكـانـت خـلاصـة هوجمت فيها كل تلك الأفكار التي كان أصحاب الفكر اليميني في باندوريا يعدونها غير قابلة للنقاش، وفي هذا الخطاب أعلنت الطـبـقـات الحـاكـمـة مـسـؤولة عن محن الأمة، وأعلي من شأن الناس بوصفهم ضحايا بطولية للسياسات الخاطئة وللحروب غير الضرورية.
كان خطابه عرضاً مضطرباً بعض الشيء، متضمناً – كما قد يحدث لأولئك الذين لم يعتنقـوا أفكاراً جديدة إلا مؤخراً – تصريحات ساذجة ومتناقضة غالباً. ولكن لم يكن ثمة شك في مغزاها العام.
ذهل الجنرالات، وانفـغـرت عـيـونهم، ثم اسـتـعـادوا أصـواتهم وبدأوا بالصراخ. لم يسمح للجنرال فدينا بمجرد إنهاء خطابه، فقد كان ثمة كلام عن محاكمة عسكرية، وعن خفض رتبته العسكرية .. وخشية من ان يؤدي الأمـر إلـى فـضـيـحـة أشـد خطورة، فـقـد أحـيـل الجنرال والملازمـون الأربعـة على الـتـقـاعـد بدواع صحية، وذلك نتيجة «لانهيار عصبي خطير عانوا منه أثناء الخدمة». وكانوا غالباً ما يشاهدون، مرتدين ثياباً مدنية ومعاطف ثقيلة وكنزات سميكة كيلا يتجمدوا من البرد، وهم يدخلون إلى المكتبة القديمة حيث ينتظرهم سینیور كريسپينو مع كتبه.
#سماح_ادريس #مجلة_الآداب #ايتالو_كالفينو

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!