الزوجة الثانية/بقلم:د.الطيب النقر

 يرفض قلبها الخلط بين إيمانها  بالمعنى الحقيقي للحب، وبين شغفها، ونزوعها الدائم للسيطرة على عقل زوجها، وتدميركل حادب ومهووس به، لأجل ذلك، منحت نمط معاييرها الأخلاقية، التي نغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، سمة القسوة، والغدر، التي تسمعهما لماماً من أفواه الناس، حتى تخضع زوجها لإرادتها، وتكون كل  ثرواته الطائلة، وقصره المنيف، بما فيه من تحف منثورة، وصور منشورة، قاصراً عليها،  ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أدمن زوجها عشق سكرتيرته الباسقة، الممتدة، التي كانت تهدئ ثائرته، عند غضبه من ضعفه، لقد خلعت عليها هذه السكرتيرة الفينانة، التي تنتمي لأسرة خاملة، لقب زوجة ثانية، وجردتها من جميع أسلحتها.
العاطفة الشاذة
لا سبيل للتعبير عن عاطفتها تلك، ولا تحديد موقع لها، لأنها تعرف جلياً أن الموروث الديني، يرفض بناء أي مضامين معرفية لها، وفي الحق أن هذا الموروث، يرجح كفة رذائل تلك العاطفة، على كفة فضائلها، عليها إذن أن تمضي صامتة، ذاهلة، وتدقق في خبايا عاطفتها المتأججة، تجاه “بعل” شقيقتها الناضرالوسيم، الذي منحته الرياضة والمسجد، جسماَ متيناً، وعقلاً سليماً، وخلقاً قويما، عليها إذن أن تكبح جماح مشاعرها الفياضة، وتوجهها إزاء شقيقه الأصغر، الذي يماثله في الوضاءة والحسن، والجمال، فبلورت سعيها في أفق “اغراء” في ليلة شاتية، تحملت شقيقتها وزوجها مؤونة دفعه، هي الآن بعيدة نائية عن محيطها، بعد أن طرأ على جسمها التغيير والتبديل، لقد تركها شقيق زوجها، طريدة الخوف والوجل، ولم تجني من “بديلها” الغرامي، غير الفضيحة، والخيبة، والاخفاق.
التراتب الاجتماعي
إن نمط التراتب الاجتماعي الموروث في بيئتها، يمنعها من الزواج، ذلك التراتب الذي تكفل نصوصه المشددة، صون المعايير الأسرية، التي تراعي زواج الكبير أولاً، وهي على ضوء هذا التراتب اللعين، عليها أن تنتظر قرابة الربع قرن من الزمان، إذا لم يخذلها الصواب، حتى يحالف الحظ شقيقاتها “السبع” ليكملن نصف دينهن، وبأسلوب سائغ سهل، خال من الاستطراد، نزعم أنها لن تنفتح لها آفاقاً رحبة للتحرر والانعتاق،  إلا إذا بلغت حياض الردى، هي الآن في بواكير عقدها الثالث، ولا يستطيع فكرها، ودائرة وعيها، المتمحور حول نفسها ، هضم هذا التراتب أو استساغته، لأجل ذلك سارت في رحلة العصيان، تبطئ خطاها حيناً، وتسرع أحيانا، حتى دخلت كهفاً، ووجدت في احدى زوايا هذا الكهف، فتاها الممشوق القوام نائما، فاختلفا إلى مأذون قرية نائية، فتزوجا، وأقاما في هذه القرية الفقيرة، المجدبة، ولأنها سريعة الألفة لكل جديد، فقد تناست أسرتها، التي اعتبرتها عائقاَ يحول دون سعادتها، و انخرطت في حياتها الطريفة، بعد أن تنكرت لحقائق دهرها الغابر، حياتها التي خلت من عيشة عذبة، ومسكناً جذاب، أهدت فيها زوجها، صاحب اللون القاتم، والشعر الفاحم، والوجه المستدير، طفلاً اطرد عوده، واستطال، حتى إذا بلغ دائرة التكليف، هرب مع أرملة غنية “متصابية”، وتركهما لموردهم الناضب، وعوزهم الواسع الكبير.
الصراع
ظل النقاش محتدماً بين الأخ وشقيقه، وأخذ الأخ الأكبر يكيل السباب لشقيقه، ويوبخه على سوء صنيعه، ويصفه بالآثرة، والأنانية، وحينما تدخل بن عمهما لطي الخلاف، وفض النزاع، كان الشقيق الأكبر، يستعصم بالرفض، ويرى أن تركيبة المهادنة، والوفاق، لا تتفق مع كرامته، وإباء نفسه، لقد بذل بن عمهما، الذي وجد سفينته تمخر في بحر تلاطمت أمواجه، وزخرت أثباجه، مجهوداً مضنياً، حتى يحيلهما إلى مرحلة التصاف، والانسجام، وبعد أن تداعى التوتر، وشاعت في الحنايا السكينة، سألهما قريبهما عن كنه الخلاف، فأشار الشقيق الأكبر بسبابته تجاه شقيقه قائلاً: هذا الوغد يدرك تماماً شغفي، ببنت جارنا “الفاتنة اللعوب”، وحرصي على التقرب والتزلف إليها، حتى أخضعها لإرادتي، واستدرجها إلى مخدعي، لقد اختلى بها هذا السافل، وبات محرماُ عليّ مواقعتها!! هذا حقاً هو الشقاق الذي يحقق للشيطان رجاؤه.
الخيانة
تلك هي الحقيقة التي انتبه إليها بعد فوات الأون، فحياته التي امتزجت بالسياسة في كل ضروبها، اتسمت بالكرب، والذلة، والهوان، لقد أمضى ردحاً طويلا من عمره، في غياهب السجون، يراقب حيطانها العالية الغبراء، ويقول لنفسه:” أنا هنا، لأني صدعت بكلمة الحق، في وجه سلطان جائر، هو هنا في هذا المكان، الذي يصادر حريات الناس، لأنه كشف منشأ الأمراض وأسبابها، كشف أوصاب النفس الإنسانية، وعللها، الأسقام التي تعبث بالنفوس الضحلة، الصغيرة، وتجعلها تقدم على الظلم، والاعتساف، تلك الفئات، التي تحصر اجتهادها، في آليات، وامكانات، منظومتها الأمنية، النخب السمجة، التي تقتنع بأن حكمها يمتد، إلى أن ينتهي آخر الأمر، بما يسمى الموت، وبعد أن تفرغ هي من عناء الحياة، يتقلد في سياق الطموح، طاغية مثلها أعنة الحكم، فيصاوله هو، ويناصبه العداء، وهكذا يتكرر العداء، ويتواتر العقاب، بيد أن هذا البائس، الذي لم ينبثق لديه “وعي” بتطوير عقيدته السياسية، عقيدته التي تموج بعواصف الافتراء الكاذب، لم يدرك أن نزعته النضالية تلك، كانت توري قدحها، زوجته “الحانيه”، حتى تزجه في السجن، وتختلي هي بصديقه، وزميله، في الأهواء والميول، إنها فعلاً ماركسية مأفونة عجفاء.
المسحوق الأبيض
هناك يقين رابض في دواخلها، بأن حياتها مملة، ومشحونة بالتكرار، رغم إنها أمست شخصية هامة ومستقلة، هي وحيدة لا شك في ذلك، لا تجد من يرّوح عن نفسها، ما يساورها من الكروب والأحزان، لقد تحملت ثريا مشاق الانفصال عن العلاقات الحميمية، التي كانت تربطها بقرابتها، لأنها وشائج منزوعة من سياقها التاريخي، فهي لقيطة،  هذه هي الحقيقة المرة، التي تجعلها ذاهلة مضطربة، متشبثة بعلبة الكوكايين، التي تأخذ منها جرعة وافية من حين إلى حين، أخبروها بها في قسوة، وفي غلظة، دون أن يخشوا عليها من العواقب، حتى تنتقل جموع من كانت تظن أنهم أهلها إلى منزل “الحاجة زينب” المشبلة العطوف، التي كانت تعتقد أنها أمها، ويضعوا أياديهم الشرهة على مملتكاتها، والمخدرات التي لا تترك قيماً إلا أفسدتها، ولا نفساً إلا أهلكتها، كانت تستبقيها ثريا الضاوية الهزيلة، وتتمسك بها، لأنها هي الأنيس الذي يعينها في وعثاء الحياة، فروتين رئيسة الإدارة المركزية لإدارة القروض بوزارة المالية، طابعه هو ما يبعث في نفسها هذا الحزن والانقباض، لأنه يخلو من الصخب والضجيج، فحياتها الخاصة، التي تنفق فيها مالها في غير موضعه، لا تظهر أنها لاهية عابثة، فمخدعها الذي كانت تستأنف فيه الجد والعمل، لم يسبق أن ولج إليه رجل، ففي الحق أن عينيها الواسعتين، لم يسبق لها أن ابتدرتهما صاعدة، متفحصة، في وجوه الرجال، فهي تمقت الرجال كما لا تمقت شيئاً آخر، لأن الرجال هم مصدر معاناتها، هي تنفق بياض يومها وهي هادئة، ساكنة، تطالع الأوارق والملفات، التي تتكدس في مكتبها الأنيق، أو مرتاعة، متولهة، من حجم الأرقام التي يتعين على وزارتها سداد أعبائها، أما  أول ليلها، فهي تقضيه في الاجتماعات الدورية، وفي جوف ليلها البهيم، يتردد رتم الموسيقى الحزينة، التي تحفزها أن تتهافت على هذا العناء، وتتردى في هذه المهالك، إذن حقا لا يوجد ما يجلو عن قلبها، أصداء حياتها الرتيبة، غير هذه البودرة البيضاء، التي لم تكن تتعاطاها بشكل قليل أو عرضي، لقد كانت ثريا تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، فتظل عاكفة على علبتها الفضية المترعة بهذه السموم، علبتها التي لا تستطيع أن تظهر حيالها الزهد والتقشف، كانت آثار النظرة السلبية لمجتمعها وأشباحها، هي التي تجعلها تقدم على شوط جديد، وتمعن في إدمان هذه السموم، وتنقاد لها، دون وعي وبصيرة، حتى حدث ذات يوم أن دخل عليها خادمها المتراصف البنية، وهي شبه غائبة عن الوعي، فأدهشها بجرأته المثيرة، وفجوره المروع اللذيذ، وقسوته التي باتت تنجذب لها، وتظهر لها الرضى والخضوع، لقد تشجعت ثريا، وأدارت ظهرها لمسحوقها الأبيض، و غدت حياتها متسقة اجتماعياً، ومنسجمة في جميع عناصرها، لم تعد ثريا تبغض معشر الرجال.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!