سمع المذياع يتحدث بحيادية عن مجزرة جديدة في الجنوب، فقد أطلق المتغطرسون الجدد “قذائف أمريكية حضارية” لإجراء عمليات جراحية لتستأصل المخربين الأوغاد، ولكنها ابادت المدنيين العزل من شيوخ ونساء وأطفال…فانزعج كثيرا وحلم بأنه يذهب خفية لمعسكر الضحايا ويصور الجثث والحطام بعدسة مكبرة، ثم يبعث الصور لرئيس دولة عظمى ارجواني الرأس ومتبجح، وتراءى له في الحلم ان وباء فيروسي معدي قاتل قد ضرب بلدة صغيرة في تلك الدولة العظمى، فاضطر رئيسها المتبجح لاتخاذ قرار وقائي صعب بإلقاء قنبلة “تبخيرية” على البلدة المنكوبة للتخلص من الوباء والسكان المصابين بالعدوى…ثم اقترب الرئيس الأرجواني منه في الحلم وقال متوسلا: ها أنت ترى “انتقام الله” مقابيل عناقيد الغضب، فبالأمس نزف الدم من صور الأطفال المقطعي الأوصال التي ارسلتها لي، وامتلأت يدي بالدماء الدبقة، وأصبحت أشتم رائحة الدم في كل مكان!
*فيا لرغبة السرد الغريزية التي تحتقن في ذهن كل انسان، وتريد ان تجد لها مخرجا: في صبيحة ذلك اليوم شعر ببهجة ضئيلة وهو يرتشف قهوته الطازجة المرة مع استنشاق نسائم الصباح العطرة، وقد تمتع بزقزقة الكناري الأصفر وبمظهر شقائق النعمان وهي تتمايل، ولكن قلق خاطف راوده من لونها الأحمر الفاقع…فتخيل جروح الحب اولا ثم تراءت له جروح عنيفة قادمة، لكنه لعن أفكاره التي أفسدت شاعرية اللحظة. ثم استغرب عندما تجامل شخصا ينظر اليه من خلال مرآة السيارة، وتبين له ان هذا الشخص هو نفسه…شاحب، جاحظ العينين كالجثة، ثم أنصت فيما بعد لصوت غريب، وتأكد له أن هذا الصوت هو صوته وهو يحدث شخصا ىخر بطريقة عصبية، فيما كان الآخر يحتفظ بهدوء يحسد عليه كانت نبرة صوته العالية ترن بايقاع هيستيري! ثم عندما دخل القاعة الصغيرة لإلقاء محاضرته، فوجىء بقلة الحضور…ثم اندهش من العيون الفارغة المزروعة في ذاته التائهة، وبدا له الجو مشحونا “بكهرباء كيماوية” منفرة!
*وبعد الاستراحة ، عاد نصفهم فقط، وكان العداء والملل قد بلغ أوجه، فأصبحوا الآن يعبرون عن استيائهم الشديد بالإيماءات والعبارات المشحونة بالسخرية المبطنة، فأعطاه ذلك حافزا مشاكسا للاستمرار في محاضرته الايقاعية: لابد من الانتهاء من هذه المحاضرة اللعينة، لكن عمال مركز التدريب فاجئوه وأبلغوه بضرورة الانتهاء فورا وإخراج الطاولات والكراسي:
-لكن ذلك ضروري سيدي،ونحن ننفذ تعليمات دقيقة! فأجاب بحدة:
-لا…لا اوافق، وانتظروا حتى انهي محاضرتي هذه…
وحادث نفسه بمرارة: حتى انهي صراعي ضد الأشخاص والأشياء والزمان والمكان…واذهبوا الى الجحيم…فلن تفشلوا محاضرتي هذه مهما فعلتم!
*ازداد نفور الحاضرين منه، وبدأوا يستعدون لاسكاته، فشعر ببريق العدوان في نظراتهم المتحدية…ثم سمع تمتمات غامضة، لكنه بقي مصرا على إكمال محاضرته: لن أيأس ابدا…فأنا روبوت بشري، واجبي ان اشرح لذوتطك الغبية ما سبق وكان غامضا بالنسبة لي،فأنا مثقف هامشي متبجح، وظيفتي ان أوقظ وعيكم البليد في عصر التنوير والذكاء الاصطناعي…أنا حامل رسال، مجبر على نقل معرفتي الطئيبة لاناس مثلكم يجترون حياتهم يعانون من الاحباط!
*الان وقد وصل الحدث لذروته،قاموا يقودهم غضب واستياء، وتوجهوا نحوه، وهاجموه بقبضات ايديهم، ثم تزامن هذا مع قدوم عمال آخرين بملابس شديدة القذارة وروائح كريهة منفرة…فانضموا لجمع المهاجمين، حشروه في المكان، وانهالوا عليه ضربا وركلا وبصقا:
– يا كريه! (فتذكر ابنته المهندسة الجامعية الفتية التي تناديه دوما بالكريه الممل)…لقد تواجدنا هنا للاستراحة فقط…لشرب الشاي والتدخين…لا لنسمع تشدقاتك الاستعلائية المملة! فصرخ محتجا: ولكني لم انتهي بعد، وقد بقي عندي مخطط واحد سأشرحه بتفصيل على جهاز الأوفرهيد بروجيكتر”، فرجاء امنحوني فرصة اخيرة، وساغير قناعاتكم…لكن اعتراضه لم يلقى أي تجاوب، بل اجج من حقدهم وعصبيتهم، وانبثقت دماء من جروح متباينة في وجهه ويديه وقدميه وكتفه…فعاد متذكر شقائق النعمان الصباحية!
*ثم شعر فجاة بسعادة غامرة وصاح “مرحى بالموت في سبيل هدف”! وبدا له رنين صوته صادقا هذه المرة، وكأنه أزاح عن كاهله جبلا عتيقا من الشعور بالذنب والخيبة، فلم تنفجر دموعه بل دبت في كيانه شجاعة مفاجئة، فاستبسل في مقاومتهم بشراسة غير معهودة، حتى انفضوا عنه كالكلاب الفزعة! . ثم استعاد ثقته بنفسه، وعاد يشعر بالحنين لشخصه، وتكثفت في لحظات قلائل ذكريات حميمة من حياته، فتذكر طفولته ووالديه واخوته، وشعر براحة ضمير نادرة، ولابد ان أرواح الضحايا قد انتقمت منه لنه صورها في حلمه الكابوسي الغريب…وربما تكون قد قصدت مكافئته بطريقتها الخاصة، فأيا كان تفسير ما حدث، فالآن يستطيع ان يعود فيحب الحياة ويبدأ من جديد.