جَلسَت تنتظرُه كعادتها في طاولة الزاوية، هناك في القاعةِ الورائية للنادي. قاعةٌ صغيرةٌ ، أشْبَه ما تكونُ بِكوخ عتيق. بها طاولتان مُتباعِدتان، ومِدفئةٌ لم تُشَغّل منذ زمن ، يَعتليها تِمثالٌ من “بْرونْز” لِفلاّحٍ نِصْفُ عارٍ يَقبِضُ بمِحَشٍ كبير. جُدرانها مَكسُوُةٌ برَقائقَ خشبيةٍ ٱلوانُها داكِنة. عُلِّقت بإِحدها ساعةٌ حائطية مُتوقفت العقارب. في الجانب الأيسر، نافذةِ صغيرة مكسورَةُ الزُّجاج، لا تُدخِلُ نورا كثيرا، مما يزيدُ من عَتمة المكان التي يُفاقمها ضبابُ دُخانِ السّجائر، ورائحَتُها النّتِنَةُ التي تَعْلق بقماشٍ مُورّدٍ يَكسو السّقفَ المائلَ للقاعة.
كانت الطاولة من ٱختياره . إختيارٌ أصرَّ عليه منذ أول يوم تَعرّفتْ عليه، أو بالأحرى منذ أول يومٍ عَرَّفَها عليه صديقُه ياسر قبل سِنينَ طويلة. فعندما طلب منه ياسر الجلوس أول مرة بالنادي، إختار طاولة الرُّكن الصغيرة، وٱشترط أن لا يلتحقَ بهما أحدٌ من معارِفِهِ الكُثُرْ تَفادِيا للإختلاط بمن هبّ ودبّ.
لا زالت تتذكّرُ جيدا يومَها، يومَ قدّم لها هذا الفتى الخجولَ المنحدرَ من إِحدى مُدُنِ الجنوب المَنسيّة. لقد كان وقتها شابّا يانِع الجمال لا يتجاوز العشرين ربيعا. طويلُ القامة ، نحيفُ الجسد، بِملامحِ وجهٍ حادّة، وبشرةٍ سمراءَ جميلة، وشَعرٍ أسودَ مُتموِّج مُتدلّي، وشاربٍ خفيفٍ يَعلو فمًا صغيرًا بشَفَتين ممتلئتين… كانت عيناهُ العَسَلِيتان الواسعتان ُتشعان بريقَ نباهتِه المُلْفتة. ولكنّ حيائَهُ يَجعلُ نظراتِهِ خاطِفةً متهربة. وكانت ثقافتُه الواسعةُ تُسعِفُهُ للحديثِ في شتّى المواضيع بِلَكْنَةٍ بَدَويّة بَيِّنَة ، وصوْتٍ خافِت مُتَردِّدٍ يَفْضَح بعضًا من خَجَلِه .
لما رَأتهُ أوّل مرةّ . قالت في قَرارةِ نفسٍها ، كيف ُلِياسر أن يُصاحب شخْصـا مِثل هذا. فياسرُ المُجاز حديثا في عِلم الإجتماع ، ورغم كوْنه من نفْس البلْدة ، إلا أنه كان بِشخْصِية مُغايِرَة تماما . كان شابا مرِحا، مُتفائلا، مُقْبلا على الحياة، كثِيرَ الكلام، لا تُفارق النُّكتٕة لِسانَه ولا المُستملحاتُ حدِيثه. يَنْسَجِم دون تَكلُّفٍ مع يُقابِله، يَشُدّ ٱهتِمامَ من يُحاوِرُه. ويُدخل البهْجَة على من يُسامِرُه. ويقنع الجميعَ بقُرب غدٍ أفضلَ يَسْعدُ فيه الكُلّ. أتَا بِه عصْرَ ذلك اليومِ الرّبيعِيّ المُشْمِس و قدّمَهُ لها بِلَباقتِه المعهودة وهَمَس لها : إِنّه ٱبن بلدتي، حَلَّ بالعاصمة للدِّراسة. إنّه صديقٌ عزيز، وإِنسانٌ طيِّبٌ خَجول. ليس له أصدقاء غَيْري. وأنا كما تَعلَمِين، سأُُهاجِرُ إلى كندا الأسبوعَ المُقبل لٱستكمالِ دِراسٕتِي هناك. وقد لا أَرجعُ أبدا. لا يمكنني أَن أكِلَهُ لُغَيرِكِ. ولَنْ أطمئِنَّ عليهِ في غَيرِ صُحبَتِك. لقد عَرَفتُكِ عن قربٍ منذ ِمدّة ، وأعلمُ جيدا أنّكِ قادرةّ على ذلك. أستحلِفُك باللّهِ أنْ تَعتَنِي بِهِ كما يَجِبْ . وأرجو منكِ أن تُعطِيهِ الوقتَ الكافِي للتّأقلمِ مع واقعِهِ الجديدْ. أُريد منكِ أَن تُأنِسِي وحدتَهُ، أن تُجبِري خاطرَهُ. أن تُنفِّسِي عنهُ كُرَبَهُ و تُساعدِيهِ على تَخطِّي أَزماتِهْ.
كان عِشقُها لِياسر الذى عَرَفَتْه منذ أربع سنَوات وفُتُونُها به ، أكبرُ من أن ترفُضَ له طلبًا، فوَعَدته على مَضَضٍ بأن تعتني بصديقِه, ولَيْتها لم تعدْ. فخليلها الجديد ، وهو ما سَتكتشِفُهُ سريعا ، كان مِزاجيا، بشخصيةٍ مركبة. مُتَذَبْذِبُ القَناعات . قليلُ الكلام، كثيرُ الملام
تذكّرَتْ كيف أمْضَت مَعَه سِنين دراسته الطويلة.كان يواعدها عادة مساءَ يومِ الجمعة. يَجيئُها مُثقَلا بعياء الأُسبوع ، مُغتاضًا من كل شيئ، مستاءأ من المقررات، حَنِقًا من بعض أَساتذته، من سطحِية الطلبة وبلادة الكثير منهم. من تعَطّل صَرٰفِ المِنَحة الطُّلابِية على هَزالتِها. من ظروف سَكَنِهٍ بالحي الجامعي وغُرفِه الرّباعية، ومراحيضِه وحمّاماتِه المُشترَكَة، حيث النظافةُ شِبهُ منعدِمة، و الماءُ الساخنُ لا يتوفرُ إلا بمِقدار، وفي مناسبات نادِرة.
كان عليها أن تُنصت اليه بعناية كبيرة، وتتحمل عباراته الفظّة. وهو يُحدثها عن زَخَم الحركة الطلابية، عن رِجعية التيّارات السَّلفية، وعن حلقيات النقاش بالحرَم الجامعي …لم تكُن تفهمُ الكثيرَ ممّا يقول عن الأحزاب الليبرالية وصراعها مع اليسار. عن وجاهة المبادئ الاشتراكية، وعن خبث الرأسمالية الغربِية التي تُؤسّسّ للتّفاوتِ الطّبقي، وتَنشُر ثقافة الأستهلاك المقززة .
لم تكن تستوعبُ جيدا مقاصِدَ حديثِه… ولا معاني الكثيرِ من مُصطلحاتِه …. لكنّها كانت تُجيد الإِنْصاتَ، و كانت سَحْنَتُها تُوحِي دائما بأهتمامها بالموضوع…. ثم في الوقت المناسب. ٍتَستَغِلُّ صَمْته ولَو لثوانٍ لِكي تُهدِّأ من رَوْعِه بالتدريج، فيَلينُ خاطِرُه ، ويَصفىٰ مِزاجُه. وبعدها فقط يظهرُ الجانب الشاعِرِيّ من شخصيته، فيبدأ في النُّطق بأَشعارِ الغَرام، والبوْح بمَعسول الكلام. ثم يَسترسِل في الحديثِ بٱستفاضة عن أحلامِه وعن برامجِه المُستقبلية الطموحَة . و عندما يَشعُر بالعياء، يُودِّعها قائلا… نلتقي الأسبوع المقبل إذا سمَحَتْ بذلك مُقَرراتُ دراستي المُجهِدةْ. ولكنّه يَقصِدُ طبعًا، إذا سمحت بذلك ظُروفُه المادية الصّعبة. كانت حِنكتها وكثرةُ تجاربها مع خِلاّنَ كُثُرٍ سَبَقوهُ وسَبقُوا ياسر من قَبلِه، تَجعلُ منها خلِيلةً جِدَّ مُتفهِّمَة…
تمضي السِّنونُ بسرعة ، يُكمل دِراستَهُ بتفوُّق، ويَحصلُ على وظيفةٍ جيّدةٍ بإحدى الوزارات، براتبٍ ُمريحْ وٱمتيازاتٍ مُهِمّة. سَكنٌ وَظيفِيّ ، سيارة ْمصلحةٰ، ومِنحَةٌ نِصفُ سنويّةٍ سَخيُة.
ٍفيَتبدّل حالُه غيرَ الحال. أصبح الآن بتسريحةِ شعرٍ جذّابة . وَوَجهٍ حليقٍ على الدّوامْ، ونظّارات رفيعة من بلد العمّ سام. أصبح هِندامُه الرثّ أنيقا. بِذلات إيطالية مُوقّعة. ورَبطاتُ عنقٍ جميلةْ. ساعات سويسريةٌ فاخرة. وعُطورٌ باريزيةٌ غالية ، وسجائرُ بريطانيةٌ مستوردة…. لم يشمل التغييرُ شكلهُ وطريقةَ لِباسِهِ فقطْ ، فَمِزاجه أيضا أصبح أصفى، وحديثُهُ أحلى . بكلمات الين وأرقى
أصبح يُواعدُها كل مساء. ويُنفِق عليها بسخاء ليُعوِّضها عن صبرِها عليهِ أيامَ الدراسةٰ ، وينتقمُ لنفسِهِ من إحساسه بالحرج عند الدّفع في آخر السهرة أيامَ الفقر وقلة الحيلة. لا أعاد اللّه من أيام كما كان يَحلُو لهُ أن يُردِّدَ دائمـًا …
كانت تلك الفترة بحق ، أسعدَ الفترات في علاقتهما الطويلة المتقلّبة . وأضحتْ سعادَتُها بلا حدود عندما باح لها ذات مرة في لحظة ٱنتشاء، أنه لم يعد يستطيعُ التخلي عنها ، و أنه لم تعد تَغمضُ له عين ليلًا إذا لم يزُرها ولم يُجالِسْها في المساء. فاطمئنت ، واقتنعت أنها أَحكمت وِثاقَه. وأنه أصبح مِلكًـا لها، ولن يستطيعَ بعد الٱن نِسيانها…
لكنّه ذات مساء، عاد ليُفاجئها من جديد. فبعدما تناول عشاءه بحضرتها كعادته. أخبرها أنه لن يراها قبل مدة، لأنّهُ سيُسافر.
تسافر؟ قالت مُستفسِرَةً!!! , تُسافر الى البلدة لزيارة السيدة الوالدة ؟ بل لرؤية كل أفراد العائلة أجابها…. لقد دعوت الجميع . لِحفل زفافي نهاية الأسبوع الجاري، وبعدها سأسافر الى تركيا لقضاء شهر العسل هناك.
ماذا ؟…ردّت وهي تحاول إخفاءَ ٱنفِعالها….. حفل زواج؟… وشهر عسل …هكذا… بدون سابق إعلام؟…..قاطعها بنَبرَةٌ حادّة…. أجل، كما تسمعين. هل كنتِ تظنّين أنني سأطلب منك إذنا بذلك. فعلاقتنا كانت رِضائيةً منذ البداية ، ومن غير ٱلتزام. ولم أعدكِ يوما بأن تَدومَ إلى الأبد.
ٕلا … لا تَغضَبْ قالت وهي تُحاول تدارُك الأمر… فقطْ … لقد فاجئتَنِي … إنها حياتُك الخاصّة، تفعلُ بها ما تشاءْ ….أما أنا، فعلىٰ ما يبدو، لستُ أكثرَ من وَنِيسةٍ من الدّرجةِ الثانيةْ .تُؤنس وحشتَكْ، وتُنسِيكَ مشاكلك ْ مقابِل دراهمَ معدوداتْ.
ْلم يدَعها تُكمل جُملتَها….. دفع الحِساب للنادل وٱنسحب دون أَن تَنفرِجَ شَفَتاهُ عن كلمةٍ إضافيةْ
إستَفاقت من غَفٍوتها على وقع قهقهاتٍ مُنبعِثة من ٍالطاولة المُجاورة، ظنّت بدأً أنها ضحكاتُ سُخريةٍ مِنْ حالِها وهي تنتظرُ لساعاتٍ عشيقَها الذي قَدْ يأتي أو لا يأتي… لكن عندما ٱنتبهت، فهِمَتْ أن هذه الضحكات هي كالعادة أَثَرُ نكتةٍ من نُكَتِ السيد إدريس التُّحفةْ، قيدوم المنخرطين، ذلك المتقاعد السبعينيُّ ذو القبَّعة الإيطالية ْالرمادية .والشاربِ الابيضِ الكثيفِ المفتولِ الجانبين والغليونِ الاسود ِ العتيق الذي لا يخمد دخانُه أبدٌا.
قالت لِنفسِها، أنَّا ينتبِهُ إليَّ أَحدُهُمْ، فالكل مشغولٌ بالحديث الشيّق لإدريس التُّحفة، ومسحورٌ بِرُفقَةِ مَن أَلِفَ كخَليلَةٍ من زميلاتها على ٱختلاف أشكالهِنّ.
عادتْ بعد هُنيهَةٍ ، لتغرَقَ من جديدٍ في ذكريات علاقتها المعقّدة معه…. فبعد زواجه في عمره َالثلاثين، لم ترَهُ لمدّة طويلة. حتى كادت أن تستسلم لليأس من إمكانية لقائه ثانية . فبدأت تستعدُّ لنسيانه للأبد، وشرعَت تُفكِّرُ بِجِدّ في البحث عن خليلٍ جديد …… غير أنه في يوم من الأيام، وبدون سابِق إعلام. حضر النادي مبكرّا في بداية الظهيرة، جلس الى طاولته التي وجَدها شاغرة ، إقترب منه النادل حسن وبادله التحية، وبدَا متفاجئا من رؤيته فبادر بسؤاله ، أين ٱختفيتْ؟ لم أرك منذ زمن طويل…. لقد إستغربتُ الأمر، وعندما سألتُها عنك، أبلغَتني أنّكَ في مُهِمّة خارج الوطن. على كل حال… حمداً لله على سلامتِك. أنا متؤكدٌ أنّكَ مُشتاقٌ إليها . سأذهب لأُخبِرَها بِقُدومِك كي تحضُر للِقاءِكَ في الحال.
َّعندما قابَلَتْهُ حافضَتْ على هدوءها. فٱستهل الكلام…. أعلم أنك مُغتاضة من غيابي الطويل، فسنتين ليست لاشيئ . أُدرك أنك مُستاءةٌ من جفائى وعدم سؤالي عنكِ ، و أتفهم ذلك. لكن، ُإعذريني ، فللضرورة أحكام كما يقال. كانت تجربةُ الزواج مُرْبِكةً لي إلى حدٍّ كبير … فبَعد شهر العسل إِنقضَتْ شهورٌ في ٱكتشاف عالَم الزواج … بعدها ٱنشغلتُ بإعادة تشطِيب الشُّقة وما تلاها من زيارات العائلة، ثم فَتْرتَيْ حمْلٍ وولادة مُضنيتَيْن ،ثم سهرٌ إجباري لشُهورٍ على إيقاع صُراخ المولود… ولكنْ، ولله الحمد ،
لقد أتمت بُنَيّتِي عامها الأول الخميس الماضي .
ويبدوا أن لياليِها أصبحت أهدأُ بكثير.
تلك الليلة….. ، بعدما زودها بتفاصيل أخباره، نجح في جَبْرِ خاطرها وٱستمالتَها من جديد ، فأَبرمَ معها اتفاقا مَفادُه أنه سيُقابلها مرةً واحدةً في الأسبوع خلال وجبةِ الغذاء، مباشَرةً بعد مُغادرة مكتبِه ليتمكّن منَ العوْدة للبيتِ دون إثارةِ انتباهِ أمِّ ٱبنتِه، وكذلك كان …
توطّدت العلاقة بينهما من جديد . لكن، مع مرور الوقت، تحولت المرّة الى مرّتين وثلاثة ، ثم سائر أيام الاسبوع…. وأصبحت جلسةُ الظهيرة تستمِرّ الى وقتٍ متأخر من اللّيل. … مرّت شهورٌ وسنين على على هذا الحال …. ثم بدأت عصبيتُه وميزاجيتُه القديمة تَطفُوانِ على السطح من جديد . أصبحت عُقدة لسانِهِ تنفكُّ في نهاية كل سهرة ، فيلومُها على ما صنعت به. ويُحمِّلُها مسؤوليةَ ما وصل اليه. يُشبعها سُبابا ، و يلعَنُ اليومَ الذي عرّفه فيه عليها صديقُه ياسر. لا سامحه الله. …. أما هي، فلا تُجادله، وتكتفي بوعدِه أنّها سوفَ تُرسِلُهُ باكرًا لزوجته في المرة القادمة….
َكانت الساعةُ تُشيرُ إلى السابعة مساءا حينما وَصَل وجَلسَ قُبالتها.
مساءُ الخيرِ قالتْ …..لقد تأخرتَ عن موعِدك ، ما الذي أخرك عني. أجابها… فعلا تأخرت وكِدْتُ أن لا أحضُر … فرَدّتْ منزعجةً!!! لماذا…؟ أنا متأكدة إنها هي السّبب…فالزوجة تكون دائما هي السبب…إنها لا تحتمل أن يترُكها الزوجُ في البيت، ويذهبَ لِلقاء أصدقائه.. ِتَستَكثِرُ عليه سُوَيعَةً هَنِيّة مع خِلاّنه لِنِسيانِ متاعِب الحياة…
قاطعها…..من فضلك لا تظلميها… فهذه المرة، لا علاقة لها بالموضوع. لقد فكرتُ طويلا. وقرّرتُ أن أغير الكثير من الأمور في حياتي، وأولُها أن أُجمِّدَ ٱنخراطي في النادي الى الأبد. لقد أطفأتُ شمعتي الخمسين ليلة البارحة. وجئتُ اليوم لأُبلغك وجهًا لوجه أنني لن أراكِ بعد اليوم…..
كان وقع خبر قراره هذا، كصاعقةٍ في سماء صيفٍ صافية. أُصِيبتْ بالذُّهول ، فلَم تَقوى على أبسطِ تعليق ، وساد صمتٌ قاتل لدقائقَ طويلةٍ ظنّتها لن تنتهي….
طلب وجبة العشاء ، وعندما أحضرَها النادل. قرّب منه صَحنه بهدوء ، وبدأ في تناول ما طلبَ على مهَل بشهيةٍ مفتوحة كالمعتاد ، وراح يبادلها بين الفينة و الأخرى نظرات وداعِ قبل الوداع، لكن دون أن ينبس بكلمة الى أن فرغ من الأكل. بعدها، قام وقال بصوت واثق هذه المرة…..علي الرحيل….وداعا.
عند مدخل النادي، عندما كان يتأهّبُ لمغادرتِهِ للمرة الأخيرة…..سلّم عليه العمُّ صابر. حارس البوابة الذي كان قد وصَل للتّو …. وخاطبَه بنبرةِ مُندهِش ….إنها بالكاد الثامنة مساءا…أراك تُغادر مبكرًا. …فأجابه ، بل تأخرت….لقد تأخرت كثيرا …
لم يفهَم الحارسُ قصدَه جيدًا وأردفَ سائلا…. وكيف ٱستطعتَ الإنسحابَ من حضرتِها بهذه السهولة كيف تركَتكَ تُغادر في بداية الأمسية.. أنا أعلم أنها لَعُوبٌ متسلِّطة… مستبِدّة… ومن شِبه المستحيل التخلُّصُ من شِراكِ غَنَجِها، والنفوذُ من براثِنِ سِحرها.
فأجابه بوهدوء ….. ببساطة، لأنني هذه المرّة دون غيرها ، چئتُ مُقتنعا بقراري، فكُنت حازما في حِواري ، وأبلغتها بصدقٍ أنها لن تراني بعد اليوم لأن لقائنا الليلة سيكون من أجلِ عشاءِنا الأخير ….
تمتم الحارس، ولكن……لم يترُك له الوقتَ لأتمام سؤاله وقال… عليّ الرّحيِل….. وداعًا سيد صابر.
تقدم بضعَ خطواتٍ نحو الشارع الرئيسي، أوقفَ سيارةَ أجرة صغيرة، إستقلّها فٱختفت بعد ثواني…