بُسيمَة هو الإسم الذي أطلقته أختي الصغرى على قطة حلت ضيفة في حوش منزلنا ذات يوم.
في البداية لم يتم تقبل وجودها وقد حاولنا ابعادها عن المنزل ولكنها كانت تعود في كل مرة. كانت قطة شابة يغطي جسمها شعر كحلي بخطوط سوداء مقوسة على ظهرها وعينين خضراوين.
كانت عنيدة جدا ، لكننا بدأنا نعتاد على ذلك وبدأ نوع من الألفة مابيننا وبينها وبالخصوص الصغيرة أختي التي كانت أكثرنا تقربا لها.أخونا الكبير وحده من كان يشعر بالإشمئزاز منها وكان يكرر علينا دائما هذه العبارة( يا جن ما تحسوا بالقرف ؟)
في الحقيقة لقد أعتدنا مع الوقت على تلك العبارة منه . كان دائما مايحاول تجنب ملامستها له وهي تحاول الإحتكاك به بجسمها وهي تمؤ بصوت لطيف أو تصدر تلك الخرخرة التي تنم عن شعورها بالسعادة ، وكنا نضحك كثيرا حينما يحاول تجنب ذلك الإحتكاك بقيامه بحركة بهلوانية غير مدروسة ويقفز قفزات سريعة ومضحكة بينما تحاول بسيمة المرور بين قدميه،حتى كاد أن يسقط في إحدى المرات ، لكننا سرعان ما نلوذ إلى الصمت حينما ينظر إلينا غاضبا وهو يصيح:
– بعدوها من طريقي.
عدا ذلك فالجميع حتى الذين لم يرغبوا بها في البداية آثروا الصمت وتركونا نلعب معها ، كانت سعادتنا غامره حينما نراها تلعب بالكرة الصغيرة التي ابتعناها خصيصا لها.وفي الحقيقة أيضا ، كانت بسيمة قطة مؤدبة، ففي أوقات تناول الوجبات، إعتادت أن تبقى هادئة ولا تثير الجلبة أو الضوضاء حتي ننتهي من الطعام وبعدها يحين دور إطعامها.كنا نتفاخر بين أقراننا من الأطفال أننا نملك قطة جميلة تتبعنا أينما نذهب حتى إلى السوق أو أماكن اللعب مع الأصدقاء.هكذا كانت الأمور تجري مع بسيمة إلا أنه ذات يوم رأينا بسيمة قد أصبحت بدينة على غير العادة وبمرور الوقت زاد بطنها انتفاخاً ثم توارت عن الأنظار ، بحثنا عنها في كل مكان ، بكت أختي الصغيرة حزنا عليها .غير أن حزننا لم يطل كثيرا ، فبعد عدة أيام ، ظهرت بسيمة تتبعها قطاط صغيرة وجميلة.
بوجود بسيمة كانت الأوقات والأيام تمر بشكل اعتيادي حتى جاء ذلك اليوم. صحونا على خبر عاجل مفزع :
– يقولوا باتدخل قوة للمدينة.
قالتها أمي بفزع شديد ، حينها دب الخوف في نفوسنا وقد أكملت أمي عبارتها:
– الله يستر ..الله يستر.
شدنا الفضول لمعرفة المزيد من الأخبار لعلنا نطمئن أنفسنا ، هرعنا إلى خارج المنزل ومن هناك رأينا جارنا يهرول نازلا الطريق الأسفلتي العام الذي خلى من السيارات العابرة من الإتجاهين ،كان الهدؤ يلف المكان وقد سمعناه يقول لأحدهم والذعر بادٍ على وجهه ومؤكدا ما سمعناه توّاً على لسان أمي:
– الله يكون في عوننا ، يقولوا أن قوة مهاجمة قادمة من الجهة الشرقية للمدينة وقوة ثانية مدافعة قادمة من الجهة الغربية والوضع يا أخي ما يسر، اصبحنا محاصرين .
ما أن أكمل الجار حديثه حتى سمعنا أصوات إطلاق نار كثيف بأسلحة مختلفة أعقبها سقوط قذيفة في وسط المدينة وتلتها أخرى خلع صوت ارتطامهما بالأرض قلوبنا وبدأت أختي بالبكاء وخرجت أمي عن طورها وأخذت تنادينا مذعورة :
– هيا ادخلوا لبيت ، أيش خرَّجكم يا جن.
عدنا راكضين ونحن نرتجف من الخوف ونلهث من شدة الرعب وبسرعة دعانا أخي الكبير للإحتماء بأحد الغرف قائلا في توتر:
– توزعوا على أركان الغرفة ، لا تتكتلوا في زاوية واحدة .
وهكذا توزعنا على زوايا الغرفة الأربع، ولم نلبث إلا قليلا ،حتى سقطت قذيفة أخرى لا ندري أين حطت بالظبط ، لكن أخي الكبير فتح جزءً بسيطا من النافذة التي إلى جواره ،بالمقابل ،
بادرنا يدفعنا الفضول إلى فتح النوافذ في حذر ، فرأينا دخانا أسودا وكثيفا يتصاعد من مكان أبعد قليلا من مكان سقوط القذيفتين السابقتين وبعد توبيخ من أمي وأخي عدنا لإغلاق النوافذ ينتابنا القلق.
إشتد بكاء أختي مع محاولة لإسكاتها من الجميع فالوضع لا يحتمل .تمالكنا أنفسنا في موقف رعب لا نحسد عليه وران صمت عميق ،فيما بدأت أمي بالدعاء إلى الله أن يجنبنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ويخرجنا بسلام مما نحن فيه.
قذيفة أخرى تسقط وكسابقاتها هزت الأرض من تحتنا وارتجت لها الأبواب وصفقت لها النوافذ بعنف وأصم دويها أذاننا وانتابنا الهلع وقد رسخ في أذهاننا أن القذيفة التالية ربما تسقط على رؤوسنا ونموت. ومن باب طمأنتنا – ربما – أو أنه قد بات مستسلما للقدر الذي قد يواتينا في أية لحظة ، أخذ أخي الكبير الذي بتنا نستمد القوة منه يخطب فينا:
– إسمعوا..المكتوب على الجبين با تشوفه العين.
واسترسل :
– إذا الواحد مكتوب عليه يموت ، با يموت والقدر بايجيه حتى لو تخبأ داخل بيضة.
بالنسبة لي لم أستطع أن أتكيف أو أهضم التشبيه المتعلق بالبيضة ، وعلى أية حال، فقد رأينا في عينيه إيمانا عميقا يتدفق . هذا بالذات ما جعل فكرة الموت والحياة أمران محتملان جدا في تلك اللحظات وفي ظروف كهذه.
مرت بعض الدقائق عصيبة وثقيلة ، وفجأةً – بعد أن هدأ أزيز الرصاص وتوقف القصف – خلع قلوبنا قرع شديد صادر من باب الحوش .نهض أخي الكبير من ركنه الذي كان يقبع فيه متوجساً، وقبل أن يخرج ليعرف من الطارق، أشار علينا بعدم التحرك ، وعلى الباب كان جارنا الذي صاح بنبرة محذرة:
– عادكم جلوس ؟؟!!..الناس نزحت كلها ..تحركوا ، الوضع ما يطمِّن.
سكت قليلا يلتقط أنفاسه ويتابع:
– سمعنا أن حرب شوارع باتدور في المدينة في أي لحظة.
ثم أخذ يردد وهو ينصرف على عجل:
– الله يستر ..الله يستر.
على إثر سماعها لذلك التحذير ، صاحت أمي:
– بسرعة شوفوا لنا سيارة ، أنا مش جالسة هنا ولا دقيقة، وين عيالي ، جمِّعوا الحاجات المهمة اللي بانحتاج لها بس .
في غضون نصف ساعة كنا قد جمعنا ما نحتاج إليه ، وخرج أخي يلتمس شاحنة صغيرة كي تقلنا ، ونجح في ذلك ، وجاءت الشاحنة الذي أكد سائقها إن ذلك كان من حسن حظنا .
تحركت الشاحنة محملة بأمتعتنا ، ركبنا نحن الصغار في صندوق الشاحنة فوق الأمتعة ، بينما في قمرة الشاحنة إلى جانب السائق ، صعد أخي الكبير وأمي.
قطعت الشاحنة شوطا كبيرا في طريقنا إلى مكان آمن نلوذ به، في تلك اللحظات وقد ابتعدنا عن مدينتنا المنكوبة التي أضحت الآن شبه خاوية، انتبهنا على صوت أختي الصغيرة تصيح :
– بسيمة ..بسيمة .. نسينا بسيمة.
صحنا جميعنا:
– صح ..نسيناها .
لكن الوقت كان قد فات وليس بمقدور أحد التراجع.
وصلنا غايتنا ونجحنا في إستئجار منزل لنا بالمال الذي كانت تدخره أمي تفاديا لأوضاع كهذه.
من هناك حيث نزحنا ، كنا نسمع عن الحرب الدائرة في مدينتنا وفي محيطها.وقيل أن عددا من المنازل تضررت جراء ذلك .
كنا نسمع بحزن الصوت الخافت للأسلحة المستخدمة في المعركة التي تدور رحاها رغم بعد المسافة.
مر عامان كاملان قبل ان نسمع أن القوة المهاجمة قد هزمت وتم دحرها وجاءت الأخبار أن الأمور قد عادت لطبيعتها .
وعلى الفور ، قررنا العودة من جديد لمدينتنا ومنزلنا الذي اشتقنا إليه، وتساءلنا إن كانت بسيمة على قيد الحياة وفي نفس الوقت أصابنا اليأس ، فلا بد وأنها نفقت جراء الجوع والعطش.
عدنا للمنزل الذي تضرر جراء قذيفة هاون حطت على سقفه،حمدت أمي الله وأثنت عليه على السلامة.
وانشغلنا بأعباء الحياة وما خلفته الحرب.
وبينما نحن كذلك ، إذ سمعنا في أحد الأيام خربشة على الباب يصاحبها صوت مواء معتاد ، هرولنا جميعنا وقد خمنا جميعنا بالضيف الذي
على الباب وصحنا كلنا(بسيمة).استغربنا كونها على قيد الحياة ، لربما نزحت هي الأخرى وعادت ، لكنه كان أمرا مدهشا ورائعا.
مكثنا لبعض الوقت نزاول حياتنا بشكل شبه طبيعي ، ولم نلبث كثيرا حتى سمعنا طرقا قويا على الباب .كان جارنا واقفا هناك بالكاد يلتقط أنفاسه…