تسلَّم أحمد أوراق تقاعده ، ووقع وثيقة المغادرة كمن يوقع التزاما بعدم العودة و ألا تربطه علاقة بالمكان مستقبلا، هذه المؤسسة التي اشتغل بها أكثر من خمسة وثلاثين عاما، كانت بمثابة بيته الثاني، درّس أجيالا متعاقبة ، صار من بين تلامذته أساتذة ، أطباء و مهندسون،
تخرج منها المحامون و الكتاب و الصحفيون، لم يكن مدرسهم فحسب ، كان معلما، أخا و أبا، كان السند لمن لا سند له..
كان يجلب بعض الفطائر و علب بسكويت حتى يعطيها للأطفال الذين لا يمكنهم توفير وجباتهم … كم مرة أخذ أحد معاطف أبناءه أو بعض ملابسهم كلَّما لاحظ أن أحد الصبية ليس لديه ما يكفي لحماية جسده الفتي من لسع البرد.. أحبوه جميعا ، عبر كل تلك السنوات ، كان الأب الروحي للجميع….
تجمهر الكل اليوم حوله، زملاؤه، أصدقاؤه و تلامذته، لم يعد مجال إلا للغة الدموع.
كم تبدو لغة النهايات بشعة، لا يحبها و لا يتحمل تعابير الوداع .
في أو ل أيام تقاعده، لا يدري كيف سيمضي مساءه دون كراسات يصححها و لا يعرف كيف سيُدير ساعات يومه، إلى أين يذهب ولا من أين يأتي، تتقاذفه الأزقة ، و تتلقاه الشوارع، يمشي دون هدف..ينظر إلى الواجهات كمن يكتشفها لأول مرة .
لم يدر كيف وصل إلى باب بيته، يبدو البيت باردا، مظلما..فقد غادرته التي أخذت روحه، أخذت أحلامه، لم تترك بغيابها سببا للعيش من أجله، كانت بالأمس نجمة في سمائه، صار الآن يسأل أركان بيته، يسأل الزهريات و المرايا .. أهذا ما قالته، أ هكذا ضحكت…أهنا جلست ، أهنا نامت ،اشتم عطرها في كل ركن
عانق وسادتها، أحس طيفها …
سمع نبضها….
لم يكن البيت موحشا أبدا كاليوم، لم يشتق إلى زوجته هكذا منذ رحلت منذ ستة شهور الى مثواها الأخير..
رنّ الهاتف ليعيده الى واقع الحال
-أهلا أبي ، كيف حالك ؟
-بخير..
-عدت باكرا اليوم.
– لقد تقاعدت..
-جيد، فرصة لترتاح أبي..
-ومن أخبرك أني أطلب الراحة.. ينهي المكالمة دون وداع .. لا يريد أن يسمع المزيد من هذه التعاليق التافهة المستهلكة خصوصا هذا اليوم ..
يحضر فنجان قهوته كالمعتاد، يشغل الفونوغراف ، يضع أسطوانة قديمة لمحمد عبد الوهاب ؛ ” كل ده كان ليه” ، يحب سماعها بهذه الطريقة رغم تقدم التقنيات، تمدّه ببعض السكينة، والسلام الداخلي..ربما يستطيع بعد ذلك التفكير جيدا فيما يمكن أن تكون عليه حياته مستقبلا.. ما كاد يكمل ما تبقى في الفنجان حتى أحس بمغص شديد، ضيق في التنفس، وألم في أسفل الصدر ، يحاول التخفيف عن نفسه بشهيق و زفير عميقين، كما قرأ مرة على إحدى التدوينات، لكن دون جدوى ، الأمور تزداد سوءًا ، لا يريد إزعاج أبناءه فلكلٍ مسؤولياته والتزاماته، لكنه لم يعد يقوى على الوقوف، يصارع ليفتح الباب ويطرق باب جاره..
يستعيد بعضَ وعيه ، يبدو أنه في المشفى، هل سيودع الحياة كما ودّعَ عملهُ صباحًا، تزيد الفكرة من ضيق أنفاسه، يتصبَّب وجهه عرقًا….
يفتح عينيه ببطءٍ شديد ، إذ به يرى وجه زوجته، يتسارع نبضه ،لا بد أنها سكرات الموت…
توقظه و هي تمسح العرق عن جبينه..
-انهض يا أحمد هل رأيت كابوسا ، تبدو شاحبا ، ما بك؟ هيا غيِّر ثيابك وتعال نتناول الفطور سويا..
لم ينبس بكلمة..
ثم أردفت ؛ أرجو ألا تكون قد نسيت فاليوم حفلة توديعك بالمؤسسة…
لا يجب أن نتأخر..