كان مثلنا جمعيا ، أقسم بالله إنه كان مثلنا يحلم أن يحقق أحلامه ، لكنه كل مرة ي صل إلى الهاوية …
أكان عليه أن ينتحر كي تكتبوا عنه في الصحف ، وتقوم من أجله الدنيا..ياليته استطاع الانتحار لكنه وزن هذا القرار فرجح قرار البقاء ، فلو انتحر لخرجت زوجته ، أو ابنته تمارسان الرذيلة ،أو تنتحران !!
لا تعلمون كيف عانى كثيرا كثيرا ، وكيف جافه النوم ، وكيف تركته الحيلة وحيدا ، فلم تمتد له يد تخرجه من قدر التهم كل بصيص الأمل ..
كم مرة مد يده وهو يلعب دور المتسول في خلوته ، فبكى بكاء لا نسمعه نحن لا ندخل معه محرقة الجوع ، والحاجة والعوز ، لقد تقطع وجه ، وشربت الحياة ماءه ، ..لقد استنفذ كل حيله ، فكم من ليلة شربت مخدته دموع انسابت حين أغلقت نوافذ وأبواب الستر …
كم مرت أيام وأسابيع وأشهر ووو وهو لا تقدم له الحياة غير هذا السيناريو ، فقد أزاحته الحياة من أفراحها ،ورمت به في سله العدم . أيسرق ؟
نعم حاول مرات كثيرة لكنه فشل فشلا ذريعا ، فقد ارتعش جسده ، وتسارعت دقات قلبه ، وماذا عساه أن يسرق ، فمن يستطيع أن يسرقهم ، لا يستحقون السرقة ، فهم في الدرك الأسفل في العيشة ، فبالكاد يستطيعون أن يسبقوا الجوع بستر لا يغطي عورة الجوع ،وأما من يمتلكون رغد العيش ، فالحراس يقفون ببنادقهم ، وأجسام ممتلئة عضلات لا قدرة له أن يتحمل ضربة ولو بكرسي البندقية ..وأما المحلات الغالية ، فهي مسيجة بالكاميرات التي تلتقط الذباب العابر .،
كان يغلق على نفسه في غرفته التي تصحرت إلا من فراش صار نحيفا مهترئا لا يقبل حتى الاغتسال ويدرب نفسه على مد اليد ، فترتعش ، وتضيع الكلمات من فيه ، فيكب رأسه بين ركبتيه ويربط ركبته بيديه ، وتنساب الدموع ، فحتى طريقة التسول تأبى أن تكون مرنة معه ، حاول وحاول كثيرا ، ضاعت منه كل مفرداته ، وتلاشت كل الآيات التي حفظها من مشائخ المساجد ..
أحس بالفشل ، وأنتم تعرفون جميعا مرارة الفشل ، ولو في مباراة كرة قدم ! فما بالكم في مباراة الجوع، و ليس في مشهد مسلسل ،أو فلم ، فتلك المشاهد ممسوخة ، وكاذبة وحقيرة ، وحتى ذلك المكياج لا يعطي ملامح الجوع ، فأخالكم بكيتم من مشاهد الجوع التي قام بها بطل عالمي ، وتكسب من إجادة الدور ملايين الدلارات ، فقد صفق له المخرج ، وكل من حضر قاعة السينما ، واختير المخرج ، والبطل لأفضل جوائز التمثيل ….أما هو فقد كان لا يمثل الجوع ولا يتقن دورا غير معيشة الجوع ، الجوع يا سادة أعلى مراتب الألم والحرمان ، الجوع يا سادة أن تتمنى الموت ، فلا يأتي ، وإن ضحكت بكيت من ضحكك ، الجوع يا سادة أن لا تجد في مساحة حياتك كلها تستحق البيع ، وحتى الشرف أحيانا إن بعته لا ينتشلك من بين براثين الجوع ..
قبل أيام طالعته زوجته بنظرات منكسرة ، ومحطمة ، فلم تعد الكلمات تجدي ، ولم يعد الصياح يولد نفقا للعبور ، فقد ماتت كل خيوط الحياة ، وحده صوت الجوع صار دون كلمات ، دلف باب غرفة ابنته ، فصطاده منظر العظام الذي غطي بثوب مهترئ ، ضربه هذا المشهد ، اختفى من مساحة نظرات زوجته ، وراح يضرب برأسه يده التي أمسكت الجدار معاتبا إياها .. ….
مد يده وعيناه تغتسلان بالدموع ..
عاد بكسر خبز محطمة كروحه التي حطمها الجوع ، تناولت زوجته وابنته كسر الخبز ، وبقى هو لا يجيد لغة الحياة فقد تحطمت لغة وهو يمد يده دون أن ينطق بكلمة واحدة للمارة ، وحين يؤذن للصلاة يسابق المصلين ، لكنه يمكث في مؤخرة الصفوف حتى ينكس رأسه ، وينتظر هدية من أيدي العابربن ، فلا يطالع الوجوه حتى يكبل بالحسرات … .
ماتت الكلمات على لسانه ، لكن جذوة كبير من نار تشوي قلبه ، فلم ترواده يوما حتى الكوابيس بأن يصل لهذه الحياة التي أخرجته من ركب العيش الكريم .
كبرت بنته وصارت في عمر الزواج ، فمن يقبل بها زوجة له ؟! رغم جمالها ،وعفتها ، وتميزها في دراستها ، لكن الكثير لا يشتيها إلا كوجبة للتسلية حتى أستاذها الذي شجعها على التميز يرسل لها نظرات توجس ، أو هي تظن ذلك ، فحين تكون بلا أمان لا تعرف غاية اليد التي تمتد لك أتريد مساعدتك ، أو تريد الانقضاض عليك كطريدة أوجعتها مخالب الوحوش ..
قبل عام دخلت رئيسة بعثة الغذاء العالمي لمنزلهم تتكلم اللغة العربية المكسرة لكن الفتاة حادثتها بلغة أنجليزية طلقة : لا نريد خبزا فقط نريد أن نعيش بكرامة ، فلا تعطونا كسرة ، وتستضيفون في بلادكم من يأكل خيراتنا ..
خرست رئيس الغذاء ….
بعد أيام اختفت الأسرة من ذلك البيت المحطم جدرانا وروحا ..
قيل الكثير عن سبب الاختفاء ، وإن الأسرة غيرت أسماءها ، وأن البنت صارت جاكين .. التي تقوم بتوزيع الإعانات إلا أنها لا تنطق اللغة العربية التي كانت تهان بكل مفرداتها .