نظر من النافذة، الغيوم تسدل ستارا داكنا يحجب الشمس، حلّقت أفكاره بعيدا إذ راودته ذكرى فتحية، تلك الفتاة المختلة عقليا عندما أتت مع والدتها لزيارتهم ذات صباح، ألقت تحيتها قائلة: مساء الخير، وعندما أخبروها أن الوقت صباح أجابت بثقة: الدنيا عتمة… والعتمة مقرونة بمساءاتنا ، هذا ما تدركه فتحية، كان يومها الجو كئيبا كحاله اليوم. أين هو من ذلك الزمن الموغل في القدم عندما كان غلاما في الخامسة عشر.
شعر بالأسى عندما أدرك لوهلة أن فتحية مع تخلفها العقلي أفضل منه حالا اليوم… تمنى أن يكون مختلا، على الأقل لن يتأثر لضعفه، ولن يدرك أبعاد مصيبته، هو مدرس في مدرسة ثانوية أو بالأصح كان كذلك قبل أن يصبح طريح الفراش متسربلا بعجزه بعد أن أقعده المرض.
سمع وقع خطواتها، قطب رغما عنه عندما أقبلت زوجته إليه، وساعدته كي يجلس على الكرسي المتنقل قبل أن تغادر إلى عملها حتى يتمكن من التجول في الشقة، قابلت تقطيبه بابتسامة تجاهلها، فهو يكره المجاملات والتملق… ربما كانت تبتسم بطيبة محضة، إلا أنه يرفض هذه الابتسامة، يرفضها وكفى… غادر نجلاه كذلك إلى دراستهما، حسن شاب جامعي، ومصطفى في الثانوية العامة، سمع اصطفاق الباب وجفل ، وعندما أقفل الباب بالمفتاح شعر بالنهاية، نهاية اتصاله بالعالم الخارجي، أدرك أن عالمه لا يتعدى مساحة هذه الحجرة. نعم هو يجلس على كرسي متحرك، إلا أنه لا يرى ضرورة لمغادرة موقعه، زجاجة ماء ترقد عن يمينه على منضدة صغيرة ، إلى جانبها هاتفه النقال الذي يذكره بعجزه، حيث أهداه له حسن لسهولة التحكم به والوصول إليه بالمقارنة مع الهاتف الأرضي، أقنعه اللعين أن يقتنيه، هو أسهل من غير شك، لكنه يكرهه لسهولته، يكرهه لأنه يذكره بقلة حيلته، بضئالته، بلا أهميته،باستثناءات شتى تهمشه وتقزمه ، هو يذكر جيدا كيف سقط من يده ذات يوم، حينها تبسم، وشعر بالسرور لأنه أصبح بعيد المنال كالهاتف الأرضي تماما، شعر بالتفوق عليه وهو ملقى على الأرض بإهمال ، لم يحفل برنينه ، صم أذنيه، كان منشرحا . قال له حسن: هو أداة طيعة،إعتبره المارد وأنت السيد المطاع، ليكن كما تريد يا حسن… تناول الهاتف ونقر رقم أحد أصدقائه، مدرس قديم، رد الصديق: سأتصل بك لاحقا، أنا الآن في حصة… تأفف وبرطم، ثم أقفل الخط بغلظة ، وقذف الهاتف بعنف على الأرض، تحطم… ضحك بفجور وتشف وغل، لقد حطمه وانتصر عليه لأنه لم يلب الطلب، انتقم من المارد وقتله، سيان كان سبب الصد الذي قوبل به، إلا أن المارد أخفق وجزاؤه الموت. قطب فجأة عندما أدرك أن انتصاره وهمي، لا قيمة له، فكر ماذا سيقول عنه الصديق؟ لقد أنهى المكالمة معه بجلافة ، ايه… ليته يشتمه، أو على الأقل يعبر عن استيائه، ولكن هيهات… إنه سيعذره من غير شك، وعندما يعذره تكون الطامة الكبرى، هو يكره أن يُدارى، هذه المداراة التي تشعره بتفاهته. هو مشلول، هذه حقيقة دامغة لا محيد عنها، لكن عندما تُشل الإرادة يقفز الموت متأهبا… وهو لا يريد أن يموت الآن، ولكنه يشهد موته وهو على قيد الحياة، صعب على الإنسان أن يكون ميتا ويتنفس، إما الموت وإما الحياة، أما أن يعيش على هامش الحياة ، هذا. العذاب بعينه، وهم بمداراتهم يعذبونه، يدفعونه إلى حافة اللاحياة واللاموت ، كيف يقنعهم أن يعاملوه معاملة الإنسان السوي، فكّر… ولكني بتصرفي هذا لم أكن سويا… كنت جلفا، فظا، مسيئا، تنهد بأسى… أنا على يقين أنه سيتسامح معي، صرخ: كلهم هكذا منافقون، أفاقون ، يتصنعون الرأفة وقلوبهم قُدت من الصخر، همس: لا… أنا أبالغ، أكذب، أتجنى … الطيبة موجودة في قلوب الكثيرين ولكني أرى الوجه الآخر للحقيقة، هذا الوجه لا يراه إلا إنسان ناقص أو عبقري، ولا أظنني عبقريا، نعم أنا ناقص بدليل هذا المقعد الذي يضمني، فكّر … لست ناقصا، أنا فقط مقعد، لكن فكري حر طليق، لينطلق كما يحلو له، وفي نهاية المطاف سيعود إلي ليلتحم بي، إذن أنا أقيده، أنا المتسمر على هذا المقعد لا أسمح له أن ينطلق بعيدا، فهو أسيري، أنا ببساطة أحجمه أخنقه، أغتاله، أنا لا أبرح حجرتي، بإرادتي لا أفعل هذا، وما يمنعني غير ضعف إرادتي التي أدعيها، وكآبتي كذلك تمنعني… لا… لا… لست كئيبا بدليل أني سأبرح هذا المكان ، ويصرخ بعصبية : نعم سأبرحه. أخذ يقود. مقعده بتوتر ، كانت قيادته سريعة نوعا ما مما جعله يتعثر بقطع الأثاث، انقلب المقعد في غرفة المعيشة، وسقط على الأرض لاهثا.