… جواري يمتشق ساحة فراغي، ويأكل جسده مساحة من الضوء والعتمة، قلبي يرنو إليه، ويدي تتحسس يده، تجيبني أصابعه باردة، فيبدو ككتلة بشرية صماء، دون سابق إنذار، بدأت أشعر وكان الوجع يختلج في جسده فيمتطيه من أسفل قدميه إلى يديه، تضج تقاطيع الوجه في اختلاجات مريرة تسحق الهدوء الممتد على ساحة الجسد، عيناه تائهتان في الزحام، ويداه ترتعشان كيدي طفل غزاه البرد، فارتعشت شفتاه، واصطكت رجلاه وتكور جسده في حنو غريب نحو الرحم الأول.
رائحة ضجر، خوف وترقب من مجهول ماتنفثها الأجساد البشرية المحشوة في الحافلة المعدنية تلك الرائحة لم تمنعني من الإحساس برائحته التي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً، للتو كنت أتحسس وجوده، لكن نظرته التائهة التي اخترقت حيزاً من الفراغ بين إطار النافذة وزجاجها غربته عن الفضاء الزماني والمكاني لتلك الوجوه الكسيرة.
تسلقت قامة نظرته التي عبرت الشارع عبر فتحة النافذة إلى مساحة ضيقة بجوار الحافلات المكتظة بالقطع البشرية، حيث تسمر جسد صبي صغير محفوراً في خشونة الشارع وقسوته، محشواً في ملابس ضيقة.
يده عمود خشبي شبه لين، يلتف حول صندوق حديدي مثقل بهموم بشرية باردة، أتبين فيما بعد أنه براد صغير صدئ..
تتلمس نظرة الرجل ثياب الصبي الممزقة، وقدماه شبه العاريتين يأكلهما الحذاء فتتوجع أصابعه وتضطرب راحة يده فيمسك بها غضبه في تشنج موجع، ثم تنفرج أساريره متداخلة مع الملامح الشقية للطفل..
فجأة امتشق الرجل قامته الطويلة، وتركني خاوية أتحسس مكانه وحديثه منذ لحظات دون أن تعبر ولو نظرة من عينيه التائهتين إلي لتذكره بي.
انسلخ عما حوله، ووجهه التائه لا يعبأ بأية ملامح لأي كائن بشري أمامه، طقوسه عذبة وشرسة بآن واحد، وجنتاه قاسيتان، ونظرته تزيح بلطف تلك الوجوه الكسيحة، ويحفر خطاه في الشارع بثقة نحو ذاك الصبي.
انحنى حتى ظننت أنه لامس بجبينه الأرض تحت قدمي البائع الصغير. فطوى رجليه، ومال بكتفه إلى الصبي الذي تراجع خطوات إلى الخلف…
حيرة ابتلعت قلبي، إذ رأيت الرجل الأربعيني طويل القامة، عريض الكتفين كقاعدة جبل ذا التقاطيع السمراء الفادحة كوجه أرض عطشى تنتظر مطراً حبسته عصوراً طويلة سماء تسكن فيه وينتظر مطراً من سماء فوقه.
رأيت الرجل وقد أصبح بحجم الصبي، لهفة في قلبه لقطعة البوظة، يده تنضم خاوية على فرنك ونصف، تصبو قامته إلى الصندوق الحديدي، ويحتار الصبي الطفل أمام الصبي الرجل، حين يمد الأخير يده بقطعة نقدية كبيرة، ويتناول حصته من البوظة.
وعبْرَ زجاج نافذتي لمعت عينا الصبي حين فهم بإشارة منه أن يحتفظ بالباقي فوقف ممتناً يقظاً يتابع خطوات الرجل آملاً ألا يكون قد سخر منه.
من فوهة الحافة الضيقة اندفع الرجل، وجلس لجواري، فعاد إلى حيز الزمان والمكان، سكنت ملامحه في هدوء واستجار بالصمت، لمحت في يده قطعة البوظة، فاستجمعت أشلائي المتناثرة خلفه وتساءلت: بكم؟
أجابني ونظرته السارحة إلى الخلف نحو طفولة مسحوقة، جلدت على مشارفها أحلام عذبة، وبقايا أنين الفقر والبؤس، عبر لوحات متداخلة من ذاكرة متوجعة:
بفرنكين!!
بقيت صامتة والوجع يبتلعني…
وأنبش رحم ذاكرتي الخاوية مستطلعة شكل الفرنكين وسنوات من عمر الصبي الرجل أمامي…
الذي تابع قائلاً: آه… لكم تمنيت لو كانت بطعم الماورد!!…