كَانَ “اٰلْبَاصُ” اٰلْعامُّ اٰلْحَدِيثُ؛ اٰلدَّاعِمَ لِطَلَبَةِ اٰلْمَدَارِسِ وَاٰلْجَامِعَاتِ؛ بِاٰلنَّقْلِ اٰلْمَجَانِيِّ مِنَ اٰلْحُكُومَةِ كَوَسِيلَةٍ تَرْفِيهِيًةٍ لِي وَلِصَدِيقِي “بَاسِمٍ”، فَنَجِدُ مِنَ المساحة الوسطى “للباص” مكانا جيداً للهونا ولعبنا، كُنّا فوضويّين بشكلٍ هستيري، ولعل هذا ما كان يجعل من الطريق الطويلة ما بين المدرسة والبيت غير مُملة، ولعل تجاهل الرُكاب لحركاتنا بحجة أننا مُراهقين تملؤهما الطاقة؛ عُذراً جيداً يُغلف جنونا، لكن انتقال الصديق إلى مدرسة أُخرى جعل من الرتابة والروتين بديلين عن غيابه، وما كان يستفزني حقاً، ذلك الرجل المُسن البائس ذو الأسنان المُهشمة. لاأعرف لماذا كان يُغدق عليَّ بابتساماتهِ البشعة كل يوم عَقبَ صعودي إلى “الباص”، وكأنهُ ينتظرني بفارغ الصبر كي يبتسم، ثم يقوم من مكانه ويكلم السائق ويعود إلى مقعدهِ بشكلٍ دوري، مرَّ عام كامل على هذه الحال المُريبة، وأنا أدعو الله أن يأخذهُ لأبعد مكان، كي لا أرى تجاعيد وجهه الوعرة، ولا تلك الابتسامةَ المُريبة، أو تلك الكلمات التي يتكلمها بهمس مع السائق، والتي أجزمُ بأنها تخصني تزامناً مع نظرات السائق التي تتوسط المرآة الكبيرة “للباص” أثناء ثرثرة ذلك العجوز معه، كُنت أبحثُ عن أيّة وسيلة نقل أخرى تنقذني مما أعيشهُ يومياً من البحث عن السبب الحقيقي لتركيزهُ عليَّ، لكن لم يكن هُناكَ عرضٌ مُغرٍ أكثرُ من “باصٍ” مجاني كي يكون أيّ خيار آخر بديلا لهُ، وفي يومٍ ما؛ وبعد شوط طويل ومتعب في المدرسة؛ انتظرتُ “الباص” بفارغ الصبر كي أرمي بجسدي المُتعب على المقعد، الذي تعودته لأرتاح قليلاً من الإرهاق الساكن فيَّ، وما إن فُتح باب الباص وهممتُ بالارتجال نحو المقعد، حتى ناداني السائق قائلاً: – يابُني، لَمْ تدفعَ الحساب. -رددتُ عليه مستغرباً: -ماذا؟! أيُّ حساب؟ أنا طالب، و”الباص” الحكومي يدعم الطلبة. أجاب باسماً: -يابني، “الباص” لم يعد مجانيا منذُ العام الماضي، لكن العجوز -للأسف- توفي يوم أمس، وهو من كان يدفع لكَ الأجرة يومياً.