بائع الطُرمبة/ بقلم: إبراهيم العبسي ( اليمن)

٢٠٢٥/٩/٢٦

خرجتُ صباح السبت،
بعد وداعٍ منها لم يكن سهلاً.
كنت أرغب في البقاء، لكنني وعدتُ قريبتي بخدمة، ولم يكن من اللائق التراجع.
الشارع شبه فارغ، والهواء يحمل شيئًا من الدفء.
ركبتُ الباص المتجه إلى خشبة الحوبان، والركاب يتبادلون حديث الصباح. لا شيء جديد.

قبل أن نصل، رأينا نيرانًا تتصاعد في السماء.
عرفنا أن فرن “ريتاج” يحترق،
الألسنة تردّد ما تردّده دائمًا عند كل حريق: حديث عن أدوات السلامة، عن غيابها، وعن تأخر سيارات الإسعاف.
الناس تجمّعوا، بعضهم يصرخ، وأكثرهم يصوّر.
اقتربتُ، صورتُ فيديو قصير، نشرته كحالة، ثم مضيت.

ذهبتُ إلى محل “الطرمبة”(*) القريب،
كعادتي، لا بد أن أتناول منه كلما نزلتُ الحوبان.
الطعم الحلو لم يتغيّر، لكن شيئًا في داخلي كان مختلفًا.
ربما هو أثر الوداع، أو الحريق، أو مجرد شعور عابر لا اسم له.

في جيبي مبلغ بالكاد يكفي للوصول إلى إب.
مشيتُ متجاوزًا الفرزة، كما أفعل دائمًا.
لا أحب أن يبيعني المندوبون، ولا أن أكون راكبًا تحت أعينهم.
أفضل السفر مع من يمضي، لا من ينتظر. فأنا بطبعي عجول.

وقفتُ قليلاً، أبحث عن باص.
وجدتُ واحدًا متجهًا إلى إب.
اتفقنا على الأجرة، وكان السائق شابًا صغيرًا،
عيناه لا تستقران، ويداه تعبثان بجواله.

ما إن تحرك، حتى فتح الزامل ورفع الصوت.
طلبتُ منه أن يخفضه، لكنه لم يلتفت.
عند مفرق الذكره، توقف فصعد ركاب، ثم عاد ورفع الصوت من جديد.
قلت له: “أوقفني، لن أسافر معك.”
قال: “حاسبني.”
رميت له مائة ريال، أراد أكثر، ولم يحصل عليها.

وقفتُ على جانب الطريق، أراقب السيارات تمرّ.
جاء باص آخر، يقوده رجل في منتصف العمر.
لم يكن معه مسجل، ولا زامل، ولا ضجيج.
اتفقنا على الأجرة، وركبت.
جلستُ في الخلف، في المنتصف، تحرك بهدوء،
ثم ركب بجانبي في القاعدة، شاب مسلح بلباس مدني. لم أعره اهتمامًا.
لا أرتاح للمسلحين، ولا أميل إلى الحديث معهم.

وصلنا منطقة شبان، على طريق إب.
وبمقربة منها، صعد للباص ولد صغير، لا يتجاوز الثانية عشرة.
أراد الجلوس في الممر، ففسحت له مكانًا بجانبي.
في يده وعاء فارغ، خاص ببيع الطُرمبة.
تبادلنا الحديث، سألته كم حبة يشتري وبكم.
قال إنه يشتري خمس حبات، ويأتي من قريته “الحيثجه” قرب سائلة جبلة، ليبيعها في شبان.

سألته مازحًا: “ماذا تفعل بالربح؟”
قال لي بزهو: “أعطيه لأمي.”
شدّني الولد بلباقته ومثابرته، فقلت له: “ما اسمك؟”
قال: “مؤنس.”

تعرفتُ عليه أكثر، وسألته: “في أي ساعة تبكر تطلب الله؟”
قال: “السابعة.”
كنا في ذلك الوقت قرابة الحادية عشرة.
قلت له: “لماذا تتأخر؟ وهن خمس حبات فقط.”
قال: “الناس يريدونها بخمسين، بسعر الشراء.”

مازحته: “بعد أن كتبت بياناتك، سأبلغ عليك.”
قال: “لماذا؟”
قلت له: “تبيع الطُرمبة للناس بمائة.”
ابتسم.

أخبرته أنني أريد أن أكتب عنه نصًا أدبيًا.
استغرب، وسألني: “ما هذا الذي ستكتبه؟”
فتحت الجوال، أريته نصًا من نصوصي.
فرح، وأصر أن أكتب عن صديقه عبد الملك، فهو مثله يبيع الطُرمبة.
قلت له: “أبشر.”
وازداد إعجابي به.

تخيلته في سوق شبان، مفترشًا الأرض،
تحت شمس الظهيرة التي لا ترحم،
بضاعته المتواضعة أمامه،
وعاء فارغ، وبعض الحبات، لا أكثر.

لا أحد يلتفت إليه،
ولا يعره أحد انتباهًا،
كأن وجوده هناك لا يعني شيئًا،
وكأن صوته لا يصل.

كان يصيح بصوتٍ خافتٍ يعلو حينًا ويخفت حينًا:
“طرمبة بالعسل… طرمبة بالعسل…”
لساعات، دون أن يمل،
والعرق يتصبب من جبينه،
والشمس تلفح وجهه،
كأنها تختبر صبره.

لم يكن يشتكي،
ولم يكن ينتظر شيئًا،
فقط يبيع،
كما يفعل كل يوم،
بهدوء من يعرف أن الحياة لا تُعطي كثيرًا، دون تعب.

بعد قليل، نزل من الباص، وأنا أنظر إليه باعتزاز،
كأنني رأيت في مؤنس شيئًا من بدايات كثير من الناس البسطاء،
شيئًا من الصبر،
وشيئًا من الفخر،
وشيئًا من النقاء الذي لا يُشترى.
دعوت له في نفسي.

ثم التفتُّ إلى الشاب المسلح الجالس بجانبي.
قلت له، دون أن أطلب منه جوابًا:
“هؤلاء الرجال، حقًا، يكدّون ليحصلوا على الفتات… ليسوا مثل أولئك الذين يطبلتجون على الناس.”
كان كلامي يحمل مغزى.
الشاب بجانبي ظل صامتًا، ينظر أمامه، كأن شيئًا لم يُقال.
لكنني شعرت بشيء من الخفة،
كأنني قلت ما كان يجب أن يُقال،
ولو لم يجب عليه أحد.
———————–

(*) نوع من انواع الحلوة باليمن

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!