كانت الليلة مشبعة برائحة المطر الأول، والسماء نصف مبللة بنور القمر، كأنها صفحة بيضاء كُتب عليها شيءٌ لم يكتمل بعد.
الريح كانت تمشط شرفات المدينة ببطء، وتترك على النوافذ أنينًا خافتًا، فيما عقارب الساعة تمشي الهوينى فوق صمت الغرفة.
المصباح الأصفر فوق مكتبي لم يكن يضيء وحسب، بل يحرس الأوراق المبعثرة من غزو الظلال التي تتمدد من أركان الغرفة.
كنت أستعيد لحظة كتابتي للإهداء، تلك اللحظة التي شعرت فيها وكأن يدي ليست يدي، بل يد أخرى تحركها رغبة أعمق مني:
الإهداء:
قبل أن يُهدى إليّ هذا الكتاب كنت قد نسخته قبلاً…
ولأني كنت دائم البحث عن فرصة لأهديك شيئًا يبعث السرور في نفسك، خطرت في بالي فكرة إهدائه لك، فكتبت:
إلى التي لا يشبهها إلا أنت…
إلى التي تزهر الصفحات، وتشرق الكلمات إن لامستها…
شرف لهذا الكتاب أن يتفاعل بين راحتيك، وأن تستضيء حروفه بنور عينيك، وتتفتح سطوره على ابتسامتك التي تشبه الفجر.
إنه لشرف له أن ينهل من فكرك المشتعل بأناقة الأدباء، ونضج الفلاسفة،
وأن يحاور لغتك التي لا تحدها الكتب، وينشط مع تأملك حتى يفيض ألقًا يهدي الحياة…
لكن الإهداء بقي حبيس الورق، لأن المرض باغتني كزائر ثقيل، وأحكم قبضته على أيامي، حتى انطفأت رحلتي قبل أن تبدأ.
اعتذرت لها بحروف مبحوحة عبر (الواتس اب)، وقلت إن السفر قد تأجل… لكنني لم أذكر أن هناك من سبقني إليها منذ زمن.
ذلك المساء، وعند العاشرة تمامًا، سمعت صوته.
لم يأتِ من الخارج، بل من مكان أقرب من نبضي.
كان صوته عميقًا، فيه خشخشة المسافات وأصداء الانتظار:
“كم أشتاق للقائها… كم أتلهف لأن أكون بين يديها، أن أدفن وجعي في دفء أناملها، وأن أقرأ معها المساء حتى آخر نقطة ضوء.”
تجمدت الكلمات على لساني.
لم أره، لكنني شعرت بوجوده، كأنه ظل يقف إلى جواري، يتنفس على مهل، ويخفي ارتجافه في صدره.
حاولت أن أعتذر له: “المرض… البعد… الوقت”
لكن الحواس خانت حيادي.
البصر رسم وجهها على حائط الغرفة.
السمع جلب وقع خطواتها، وكأنها تعبر أرضًا من ضوء.
الشم أغرقني بعطرها.
اللمس جعل أصابعي تتحسس يدها رغم أنني وحيد.
أما الذوق ، فقد ذاق طعم وعد مؤجل.
جلس الزمن بيننا في هيئة رجل مسن، يضع يديه على عصاه، ويقول بابتسامة حزينة:
“لقد أخرتَ اللقاء، لكن ما زال أمامك لحظة تستطيع أن تصنع منها الأبد.”
وفجأة، لمحتها…
لم تدخل من الباب، بل خرجت من قلب السطور.
شعرها كان انسكابًا من حبر الليل، وعيناها بحرين يتلألأ فيهما القمر، وابتسامتها شقّت الغرفة نصفين.
مدّت يدها إليه…
رأيته يرتعش بكامله، ينفرج، يفتح صدره لها كأزهار الصباح، ويهمس بصوت لم أسمعه من قبل: “ها أنتِ.”
ولم أدرِ حينها…
أكان جسدًا أم غلافًا؟
أكانت أنفاسه صادرة من رئتين، أم من أوراق تتنفس بالحروف؟
كل ما أعلمه أن قلبه كان يخفق، وأنه حين لامست أناملها صدره، انفتحت في الغرفة نوافذ من ضوء، وامتلأ الليل برائحة الكلمات.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية