بين النهاية والبداية/بقلم: عماد الدين التونسي

لصحيفة آفاق حرة

****************

في قسم السادسة الإبتدائي، كنتُ تلميذا جيدًا، أنتمي إلى أحد مدارس الوطن العزيز ، وأعترف أنني لم أكن أقرأ إلا ليلة الإختبار، ولم أُمسِك الكتاب المدرسي يومًا في وقتِ النهار.

كان معلمواالفصول يحذّروننا من هذه القسم “أنتم مُقْبِلون على قسم فيصليٍ ومرحلي”، أجل، كنتُ مرتعبًا من إنتقالي لقسم السادسة، ولشدة رعبي لم أهنأ بمعدلي الجيّد في القسم الخامس، فأخبرتُ والدتي أن تجلب إليّ كُتب قسم السادسة ، لأدرسَ في فترة العطلة الصيفية، فَفَعلتْ أمي ذلك بصدرٍ رحب، وكالعادة، جلبت إليّ الكتب ولم أدرس شيئًا!

بدأَ ت السنة الدراسية، وكنتُ من أشدِّ الكارهين لبعض المواد، إلا أنني كنتُ وفيًا لحصة التعبير، ودائمًا ما أبرع في كتابة النصوص الإبداعية.

في تلك الفترة.. كان هناك معلمٌ فاضلٌ، طويلُ القامة مثلي، وطويلُ الهامةِ على عكسي، وفيٌ للَّغةِ العربيّة لدرجةِ أنه يصفع التلميذ على وجهه ويجلدهُ على أصابعه بعصاه التي تبلغ نصف متر إن أخطأَ في الإعرابِ . كرهتهُ كرهًا عابرًا، رغم أنه كان يحبني في جوفه، ولا يحرجني بأسئلة النحو الصعبة عند طرحه للأسئلة، فكانَ من أشدِّ الفاهمينَ لشخصيتي الطفولية، وإبداعاتي الكتابية التعبيرية.

في حصةٍ من الحِصص الأسبوعية، عرضَ علينا موضوعًا تعبيريًا عن الحريّة، وطالبنا أن نكتب فيه على مدار نصف ساعة من وقت الحصّة المخصصة له شرعيًا، فكتبتُ له نصًا فائق الجمال “كما ظننت”، إلا أنه جلس على كرسيه ليصحح إنتاجاتنا، فبحث عن كراسي ليصححه كأولِ كراس. نادى عليّ بالخروج إلى السبورة، فظننتُ بثقةِ (المغرور) أنه أخرجني ليمدح حروفي أمام التلاميذ، كأُنموذجٍ جميلٍ للنصِّ القويم، إلا أنني فوجئتُ بمطالبته مدّ أصابعي! مددتُ أصابع يدي العشرة بجوار بعضها، وتلقيتُ عقابي الشديد، فما كان به إلا أن يضربني بضراوة الملمح الكالح، وبأقسى ما لديهِ مِن قوّة، وعدتُ إلى مقعدي حاملًا كراسي وصِفري بأطرافِ أناملي المتورِّمة.

تساءلتُ في سريرة نفسي: لماذا عاقبني؟ ألم أشعر بكرهه لي؟ أم أنه كما يقول التلاميذ ربما يكون مزاجه معكر اصلا؟!” صبرتُ كثيرًا حتى إنتهى وقت الحصة، وعِند دقّ الجرس، تلفَّظَ بإسمي، فإرتعشتُ رعبًا، ماذا بعد يا ترى؟ وإذ به يخبرني أن أحضر إلى مكتبه بعد أن أتناول لمجتي في وقت الإستراحة. إمتنعت عن تناول وجبتي رغم كوني متضورًا مِنَ الجوع، وذهبت لمكتبه، وسألني قائلًا: “هل تعرف لما عاقبتك رغم إنك مبدع بكتابتك؟” أجبته متعجبًا: “لا يا سيدي”. فقال لي: “لأنك وضعت نقطة في نهاية كل فقرة، لكنك نسيت وضعها في نهاية النص الأخير”. هذا السبب المقدّم جعلني أرتعش فطريًا حتى هذه اللحظة التي تقرؤون فيها حروفي، فغدوتُ مِن بعدها مؤمنًا بأنّ عقابه لم يكن بطشًا، إنما كان تهذيبًا لُغويًا.

أعلمُ أنّ الكثير ينبذون ظاهرة التعنيف الدراسي، وأنا منكم ومعكم أيضًا، وأتفقُ على تلك النظريات التي تدّعي وجود بدائل علاجية أخرى تخضع للعادات الاجتماعية، أكانت نفسية أو سلوكية، لكن يجب عليّ الإعتراف والإقرار بأنّ ذلك العقاب الذي أخذتهُ مِن معلّمي لم يخلق لي وازعًا سلبيًا، بل دفعني للإهتمامِ بكلِّ حرفٍ، والوقوف للتدقيقِ عندَ كلِّ ناصية.

ها أنا اليوم في حقل التعليم الابتدائي ، أكتبُ شعرا و كتابة، وأُهديها على وجهِ الخصوص لذلك المعلّم الذي غضّ الطرف عن إجابة كراسي الصحيحة، وعاقبني على نسياني وضع تلك النقطة في نهاية الجملة.

ممتنٌ له أن أصْلَبَ قوامَ مبادئَ فِطرتي قبل لُغتي، وأُهديه بحثي وقلبي وحروفي شاكرًا منحنيًا، وأقول له: “يا سيّدي.. لم أحبكَ وحسب، بل لأجلكَ أحببتُ العربيّة”.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!