في زاوية من العالم، حيث تُعلّق الشمسُ حُلمها على أسلاك شائكة، وقفَ ينظر إلى السماء. كانت الغيومُ تمر كقطعان أغنام بيضاء، حُرّةً، بينما هو مُقيّدٌ بجدارِ الواقعِ المرير. تساءلَ بصوتٍ خفيض: “هل تُباعُ السماواتُ أيضاً؟”.
كان بيتُه كومةً من الذكرياتِ المبعثرة تحت الركام، وكُتبُه الصغيرةُ التي حفظتْ أحلامَ الطفولةِ صارتْ وقوداً للبرد. أمُّه، التي كانت تُغنّي له أغانيَ الأرضِ والعودةِ، صارتْ الآنَ تُغنّي في صمتٍ، لأن صوتَها صار جرحاً يُزعجُ المحتل.
في الليل، حين يخيم السكوت الثقيل على غزة، كان يسمع أنين الجدران. تسقط القذائف كأحجار عاصفة كونية، تعيد تشكيل الجغرافيا، لكنها لا تستطيع محو خرائط الروح. يتذكر جده الذي قال له: “الأرضُ لا تموت، إنها فقط تنامُ قليلاً تحتَ الألم”.
ذاتَ يوم، بينما كان يحفر في الأنقاض بحثاً عن قلمٍ ليكمل رسوماً لم ينهها بعد، وجد زهرةً برّيةً نمتْ بينَ الشقوق. ضحكَ بدموعٍ. ربما كانتِ الزهرةُ رسالةً من الأرضِ تقولُ: مهما طال الحصار، فإنَّ الجذورَ لا تُقتلع.
وفي صباح اليوم التالي، اختفى.
لم يعدْ يُرى بين طوابير الجوعى أو أصوات الثكالى. لكن الأطفال في الحي صاروا يروون قصة طائر يحملُ قلماً بدلاً من ريشٍ، يكتبُ على جناح الريح: لن نرحل.. لأن العودة ليست خياراً، بل هي حتمية النجوم.