الطابور يتقدم بسرعة أمام عريف جالس الى طاولة في ظل عربة عسكرية . فوق الطاولة سجلمفتوح ومحبرة ، و ريشة في يده . بجانبه رقيب . وعلى بعد خطوات يقف جندي ذو بشرة داكنة يقومبدور المترجم . انهم يكتتبون المتطوعين للتجنيد في الجيش . يتفحص الرقيب بتمعن أول الطابور منرأسه الى قدميه ، يهز رأسه موافقا و يتقدم هذا الأخير خطوتين . يصرخ اسمه ، عمره ، واسم ابيهومدشره الذي يسجله العريف في السجل . يتجه نحو العربة و يأخذ مكانه في مؤخرتها . امتلأت العربةولَم يبق إلا متطوع في آخر الصف . يبدو طفلا بجسمه النحيف وذقنه الأجرد ، ابتسم الرقيب ، ونصحهأن يرجع الى أهله ، ربما تكون أمه منشغلة في البحث عنه . أمر السائق أن يدير المحرك ويختفي . بقي وحيدا ، يغمره اليأس . رأى رفاقه يبتعدون والعربة تجأر و تخلف زوبعة من الغبار وراءها . تجاهلالرقيب ، و تعقب العربة بساقيه التي تشبه ساقي سلوقي ، لحق بها وبقفزة بهلوانية وجد نفسه داخل العربةوسط رفاقه .
اندهش العريف ، وبدأ يصيح ويحثه على النزول ولكن الرقيب ابتسم أيضا وأمره أن يتركه ويضيفه في الثكنة .
في الثكنة ، رش جندي رؤوسهم بمسحوق مضاد للقمل ، وآخر اقتادهم الى مرشات الاستحمام و ناوللكل واحد منهم قطعة صابون ومنشفة . بعد الاغتسال ، وجدوا جنديا حلاقا ينتظرهم بماكينة الحلاقة . بعدقَص شعرهم ، ألبسوهم بذلات رمادية . بعدها اصطفوا أمام مصور ليأخذ لكل واحد صورة فوطوغرافيةليزودوهم بهوية شخصية . أتى الرقيب و وجد جنودا غير البدو الذي انتقاهم من ساحة السوق . ابتسمراضيا ودعاهم الى وجبة خفيفة في قاعة الأكل .
أحس الجند الجدد بارتياح و نشوة تجتازهم معتقدين أنهم قد ودعوا أيامهم البئيسة و انشغالاتهم عنمصدر لقمة العيش . فقد ضمنوا راتب كل آخر شهر . لم يعرفوا سبب تجنيدهم و لا أحد أخبرهم عنالحرب التي اندلعت في الضفة الأخرى فيما بينهم ولا عن إبحارهم المرتقب والأرتماء في فم الذئب .
في الثكنة أخذوا يتعودون على حياتهم الجديدة والجماعية . حياة متعبة و لكن يبدون كأنهم فينزهة . يستيقظون في الصباح على صوت نفخ البوق الذي يفيق أيضا الديكة التي تبدأ بدورها فيالصياح . في الخارج يطل النهار بخجل من بعيد . الضباب بارد مبلل بالندى . يصطفون أمام العريف ،ويبدؤون المشي في الهضاب المجاورة و كيس ثقيل فوق ظهورهم . يتدربون على تحمل التعب .بالنسبة لهم المشي وهم يستنشقون نسيم الفجر أقل شقاء من العمل تحت الشمس الحارقة . يشعروندائما أنهم في نزهة حتى وزعت عليهم البنادق . اقتادوهم الى مكان خال من السكان وابتدأ درس فيذخر السلاح و صوب الهدف . بعده بدأت الرصاصات تصفر وتنفجر ، أجواء تشبه أجواء الحرب ولكن بدون عدو . هنا ادركوا أنهم ليسوا في نزهة وشيئ يشبه الجحيم في انتظارهم .
مرت أسابيع على هذا المنوال ، التمرين على تحمل التعب والمعاناة و التعود على استخدامالسلاح . عدم الثقة في سلوكهم المتمرد الذي يمتاز به المجندون تلاشى ، تدجنوا . الانضباط كانتالقاعدة . بدؤوا يفهمون لغتهم واستغنوا عن ترجمان . مرة في الأسبوع ، يوم السوق ، يتحررون .يلحقون أهلهم مع بعض البسيطات في الجيب وصفيحة من الزيت و رطلين من السكر مهداة لكل مجند .الزيت والسكر كانتا عملة نادرة بعد مواسم عجاف . كثيرون ، اعتبروا التجنيد شغل شريف مادام لايؤذون بني جلدتهم خلافا عن ما وقع قبل عقد من الزمن حين قاتلوا الذين جندوهم . كانوا يتخيلون أنالأمر سيدوم على ما هو عليه . تجاهلوا شرارة الحرب التي اندلعت ما وراء البحر ولأجلها جندوا .
و ذات صباح ، أخبرهم الرقيب أن يستعدوا للإبحار فإن بابور بخاري في انتظارهم . هناك ينتظرونهمللدعم للزحف نحو الشمال . هناك من استغرب من الخبر وسأل إن هم أيضا مستعمرين . هنا عرفواأن حربا اندلعت فيما بينهم من أجل السلطة . وسيقاتلون لطرد الحمر أو ما يسمى بالجبهة الشعبية التيوصلت الى سدة الحكم عبر الانتخابات ، أي سيقاتلون الى جانب الأنقلابيين .
مرت شهور ولا أخبار عنهم . بدأ اليأس عند أهلهم . غيابهم بدأ يتحسس في تصرفاتهم . النساءيشتكين الوحدة ولا من يُطفئ شبقهن ، والآباء فقدوا سند لهم . أصبحوا مثل مسنون ضاعت منهمعكازاتهم . حتى السكر المهدى لهم تغير ذوقه ، أصبح مرا . ادركوا أن الحرب تشبه الجحيم . لم يتوقفالأهل عن الصلاة و لا التذرع الى الله كي يرجعهم أمنين ، و منهم من يقدم ذبائح للأولياء .
النحيل الذي كان في آخر الطابور ، ترك فراغا لدى أهله . خاصة عند أمه . لم يغمض لها جفن .تصرفاتها تغيرت . مثل دجاجة أخذ منها فراخها . مرة تتوسل ومرة تحث ابنها البكر ليحصل عنمعلومات عن صغيرها أو أن يسافر ليبحث عنه حتى تحت صفير ولولوة الرصاص . هذا ما وقع، تدبرت الأم
مصاريف السفر ببيعها ما كان لديها ثمين ، بقرتها . البقرة التي حصلت عليها بمشقة ، بعدما غزلتصوف الآخرين لمدة طويلة . ولا شيئ أثمن من * مازوزها * .حصل على أوراق السفر بعد بعضالترتيبات و دس ثمن البقرة في جيبه و أبحر في البابور البخاري حيث يلعلع الرصاص .