لم ألاحظ وجود الرجل الذي يجلس بجانبي حتى خاطبني قائلا:” عفواً يا سيدي . هل وجهي مألوف لك أو تقابلنا سابقا بالصدفة ؟ ”
استدرت نحوه وتفحصت تقاسيم وجهه لثانية أو ثانيتين. لم تكن ملامحه مألوفة لي، وبكل ثقة أكدت له أنه كان غريبا تماما عني .
لم يندهش أبدا من كلامي وتابع قائلا : ” لو بالصدفة يا سيدي. كما تلاحظ ، أنا لست قادرا أن أعرف من أكون. ”
شعرت بشفقة نحوه.
تابع الرجل قائلا : ” لقد عدت لتوي من رحلة فقدت خلالها ذاكرتي. وفهمت من المعلومات التي قالوها لي أنني كنت جالسا في مقعدي في يوم رائع في على عارضةالشراع في مكاني المفضل عندما ترنحت السفينة فجأة ومن دون سابق انذار وسقطت على سطحها نحو الأسفل من ارتفاع 40 قدما . سقطت على رأسي وعانيت من مشكلات قليلة ، كما أخبرتك ، كان أكثرها خطورة فقدان كلي للذاكرة.فقدت الوعي لمدة ثلاثة أيام ، وخلال هذه الفترة سُرقت نقودي وجميع ممتلكاتي على ظهر السفينة واختفى أي شيء يدل على هويتي حتى اسم الخياط الذي يفصل ملابسي نُـزع من البدلة التي أرتديها . أخبرت القبطان بما حدث فأجرى تفتيشا دقيقا لكنه لم يؤد لاكتشاف السارق. أخبرني المحاسب أن اسمي كان جونز لكنني لم أستطع تجميع أي تفاصيل عن نفسي. يبدو أنني حُبست لوحدي في مكان ما على السفينة ، وشعرت أنني غير معروف لأي من المسافرين .
اتفق الجميع على أن هناك علاج وحيد محتمل وهو أن أتلقى صدمة أخرى على رأسي والتي ، كما تقول جميع السلطات ، ستعيد ذاكرتي إلى سابق عهدها . تحمس الناس لهذه الفكرة ، وأعترف لك بسرور أن طاقم البحارة والمسافرين عملوا ما بوسعهم في هذا الصدد. فقد صار من المعتاد أن يضربني على رأسي كل من يصادفني على سبيل المزاح بما هو متوفر في يده – بحذائه المانع للانزلاق ، أو يصدمنى بحافة السفينة أو أي سلاح أخر : مضرب الكريكيت . كانوا يضعوني في مكان بارز ، وكان لاعبو الكريكيت يضربون الكرة على رأسي بكل ما أوتوا من قوة . لكن كل هذه المحاولات والمساعدات والضربات التي تلقتها رأسي لم تلمس النقطة التي يجب أن تكون، وأستطيع أن أقول أن ذاكرتي ترفض العودة بعناد . ”
ثم توقف السيد جونز في استرساله.
رفعت عكازتي القوية …
وقلت : ” لكن أخشى أن تكون هذه سلاح بائس. هي فقط الخدمة الوحيدة التي يمكن أن أقدمها لك.”
رد جونز بسرعة قائلا : ” كلا …كلا .. وقت استخدامها صار من الماضي. طبيب السفينة ، وهو الشخص الوحيد الذي كان لطيفا معي ، و كان يضرب رأسي بقارورة أو كرسي عندما يستطيع ، أصدر أخيرا تحذيرا عاما بأن رأسي لم يعد يحتمل المزيد من الضرب. أصدقك القول أنني أدركت من مدة أن هذه الضربات ذات النوايا الحسنة كانت تضايقني وتؤلمني . وكان هناك استياء عام من قرار الطبيب وخاصة من جانب نادل قمرة القيادة الذي درّب نفسه أن يرمي أحذيتي على رأسي بدقة متناهية .
انتهت الرحلة من دون أن أعرف هويتي . وبكل أسف بقيت هكذا. أنا الآن أجتهد لأجمع النقود التي تمكنني من إجراء استفسارات في المرفأ الذي أبحرت منه السفينة
فهل ستكون لطيفا يا سيدي وتدفع…….؟ ”
الحواشي:
العنوان الأصلي للقصة :
A Sad Story of a Lost Memory, Pleasure and Purpose , Longman, 1965, p37
محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية / رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / حاليا رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط. كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية . مؤلف ” معجم مصطلحات وقوانين الشحن البري البحري الجوي” وكتاب ” الصياغة القانونية للعقود التجارية في القطاع العام والخاص والمشترك باللغتين العربية والانكليزية ” .