كانَ الطقسُ بارداً جداً في مدينتي والثلجُ يكسو سفوحَ جبالِها وكأنَّهُ حبَّاتُ لؤلؤٍ منثُورةٌ على صدرِ فتاةٍ حسناء…
قرَّرتُ الذهابَ إلى مقهايَ المُفضَّل الذي يكمُنُ في حيٍّ شعبيٍّ متواضع كانت الساعةُ تقريباً الثامنةَ مساءً قعدتُ في مكاني، ثم أحضرَ لي النادلُ شرابي الساخنَ والمفضَّلَ لديَّ كالعادة…
كانت المتعةُ تغمُرُني وكأسي الساخن، وأنا أنظرُ إلى شموخِ مدينتي وهي تأسرُ الجمالَ فقط ،وتنفي كُلَّ قبيح، والجوُّ يسودُهُ الهدوءُ في المدينة….
لكنْ كعادةِ المقهى مزدحمٌ، تملؤُهُ الحركةُ والضوضاء ، نعم كانَ يجمعُ كُلَّ شرائحِ المجتمع ، كانَ أشبهَ ببيتِ جدٍّ يجتمعُ فيهِ أحفادُهُ كُلَّ مساء
الجميعُ هُناك، البُسطاءُ والأدباءُ والمفكِّرون والسَّاسةُ والشُعراءُ والمثقَّفون والمُغنُّون والعاشقون….
لا تجدُ عُنصريةً أو كراهيةً ولا حزبيةً تُؤرِّقُ مضاجعَهم، أو تطرُّفَ جماعةٍ يُقلِقُ سكينةَ ذلك المكان
لا يوجدُ شيءٌ مِن هذا القبيل….
بل كانَ يسودُ المكانَ الدِّفءُ الفكريُّ والحُبُّ الاجتماعي والاحترامُ المتبادلُ بينَ أفراد المجتمع، نعم كنتُ أشعرُ بأن لا فرقَ بينهُم، رغمَ وجود الفوارق العلميَّة، إلّا أنَّ الفكرَ والحُبَّ الأُسَري وحُبَّ الانتماء إلى ذلكَ المكان هو ما يجمعُهم….
كُنْتُ مُستمتِعةً غايةَ الاستمتاع بذلكَ المنظر ، ما مِنْ شيءٍ يعكِّرُ صفوَ حياتي سوى التفكيرِ بلحظةِ مغادرةِ المكانِ الدافئ المُفعم بالحيويةِ والنشاطِ والشبابِ المتجدِّد الذي يملؤهُ التفاؤلُ بقادمِ الأيام…..
في ذلكَ الوقت تمنَّيتُ من اللهِ عزَّ وجل أن يديمَ لنا نعمةَ هذا المكان الذي يجعلُنا دائماً نشعُرُ بالشوقِ الغامرِ والحنينِ الدائم له، وأن يسودَ السِلمُ والسلامُ موطني والعالم……
كانَ إزعاجُ المكان ومقيميه لطيفاً مرغوباً فيه، كم كانَ مُسلِّياً حينَ رأيتُ كبارَ السِّنِّ يلعبون الضمنةَ، وصوتُ أحجارِها يقرعُ في أُذُنيَّ، ومنهم مَن يستمعُ إلى الموسيقى فتنسجمَ مشاعرُهُ، ويشرد ذهنُهُ معها، ويستمتع بشُربِ كأسِ الشاي الساخن، ومِنهم مَنْ يستمِعُ للمذيعِ وبرنامج ما يطلبُهُ المستمعون والإهداءات، ومِنهم من كانَ يلعبُ الكُتشينة..
الكلُّ كانَ يستمتِعُ بوقتهِ بطريقتهِ الخاصة……
أمَّا أنا فقد أخرجتُ جريدةَ الأخبارِ مِن حقيبتي كالعادة، وعكفتُ أتصفَّحُ أخبارَ العالمِ وعجائبِه…..
بعدَ مرورِ ساعتين تقريباً من جلوسي في المقهى وسعادتي التى لا تُوصَفُ بوجودي هُناك، والضوضاء اللطيفة التي تسودُ المكانَ والفرح والضَّحك في وجوهِ المُقيمين، وأنغام الموسيقى التي تُداعِبُ أجفانَ مشاعرِنا، وتحضنُ ماتبعثرَ منها في لحظةِ عجزٍ أو حرمان…..
فجأة يُخيِّمُ هدوءٌ على المكان، وتلك الضحكاتُ والأنغامُ بدأت تذهبُ معَ الرياحِ خِلسةً ، والعاشقون ذابتْ مشاعرُهم وأصبحتْ رمادا.
أرفعُ نَظَري مِن على الجريدة فلا أرى أحداً، الكُلُّ قد غادرَ المكانَ، تركوا خلفَهم كُلَّ شيءٍ جميلٍ كانَ يدلُّ على وجودِهم….
فقط رأيتُ رجلاً طويلَ القامةِ أحدبَ الظهر ، أعرج، أعورَ العين، مُلتحياً يكادُ شعرُ لحيتهِ الرثَّة يُخفي ملامحَ وجهِه، تُغطِّيهِ ثيابٌ مُلطَّخةٌ بالدماءِ مُتَّسخةٌ سوداء، شاحبَ الوجهِ، النارُ تلفحُ عينيه، رائحتُهُ نَتِنَةٌ، يجرُّ وراءَهُ سحاباً تُنذِرُ بسقوطِ مطرِ العذاب……
كمْ كانَ هذا الرجلُ مقيتاً..!!
كريهاً وكئيباً، حينَ رأيتُهُ شعرتُ بشيءٍ بشعٍ يخنُقُ أنفاسي ويجثو على صدري، وكأنَّهُ غازٌ خانقٌ سريعُ الانتشار ومميت، تنكَّرَ بلباسِ عزرائيلَ ليقبضَ الروحَ ويرسلها إلى باريها…..
ولكن رغم كآبةِ المكانِ والاختناقِ إلَّا أنَّني مُصِرَّةٌ على البقاء وعدم الخوف ولم أتحركْ مِن مكاني قيدَ أُنمُلة
حريصةً على أن أبدو قويَّةً أمامَهُ رغمَ خوفي الشديد مِنه، لكن تمالكْتُ نفسي ودفنتُ خوفي في أعماقي مِن غيرِ بُكاءٍ أو عويل لكي لا ألفت انتبهاهَه….
عُدتُ أُطالعُ الجريدةَ وهو يقبَعُ في زاويةِ المكان، يحدِّقُ بي بقوةٍ،وعيناه يملؤُها الكُرهُ والحِقدُ لي وكأنَّهُ يريدُ أنْ يقولَ لي
لماذا أنتِ هُنا؟؟؟
لماذا لم تغادري المكانَ معَ مَنْ يشبهُكِ؟؟؟
لكنِّي تجاهلتُ رُعبَهُ و استفزازَهُ لي بنظراتهِ الكريهة، وأمعنْتُ في القراءةَ وأنا أحبِسُ خوفي الذي يكسوهُ غضبي مِنه….
فجأةً ذلكَ الرجُلُ أخرجَ قلماً وورقةً وأعطاها النادلَ
أدركتُ أنَّ ذلك الرجُلَ لا يريدُ الكلامَ ثُمَّ عادَ النادلُ مُسرعاً ومعهُ كوبٌ كبيرٌ فيهِ شرابٌ ساخن ووضعَهُ على الطاولةِ أمامَ ذلكَ الرجلِ ثمَّ انصرف
أخذَ الرجلُ الكأسَ الساخنةَ وارتشفَها رشفةً واحدةً دونَ أنْ يتأذَّى فمُه، وكأنَّهُ فاقدٌ للإحساس
فأُصِبتُ بالذُعرِ والهلع مِن ذلك الموقف، ثُمَّ أخذَ كأساً تلو الأخرى يشربُ شرابَهُ ويرمي بالأكوابِ على قارعةِ الطريق….
بصراحةٍ راودَني الخوفُ والهلعُ لكنَّ َالنادلَ كانََ أكثرَ خوفاً منِّي، كان يتصببُ عرقا،ً وجسمُهُ يرتجفُ حتَّى أنَّهُ أصبحَ لا يقدرُ على الحركة….
بعدها قرَّرتُ الانصرافَ ومغادرةَ هذا المكان الكئيب، ليسَ خوفاً ولكن ضاقَ بي الحالُ وتعكَّرَ مزاجي وشعرتُ بأنَّني في دوامةٍ ليسَ لها قرار….
نهضتُ ووضعتُ الجريدةَ في حقيبتي وانصرفتُ
فجأة تبِعَني ذلكَ الرجلُ، لكنِّي لم أتفوَّه لهُ بكلمةٍ واحدة فقط نظرتُ إليه نظرةَ احتقار، ثُمَّ واصلتُ المسير…..
شعرتُ برغبةٍ كبيرةٍ في السير لأنِّي كنتُ متضايقةً جداً مِن ذلك الرجلِ الهمجي
وبعدَ أنْ مشيتُ بنصفِ ساعة رنَّ جهازي الخلوي
أخرجتُه فإذا برقمٍ غريبٍ لم أرَ مِثلَهُ قَط، تجاهلتُهُ وأرجعتُ هاتفي إلى الحقيبة.
بعد دقيقتين رنَّ مرَّةً أُخرى ، هذهِ المرَّةُ قرَّرتُ الرد
ألو !! من معي؟؟؟
فإذا بصوتٍ قويٍّ غليظٍ يملؤهُ الغضبُ يقول :
هل تظُنِّينَ أنَّ عالمَكِ سيظلُّ بسعادةٍ وسلام؟؟ لااااااااا
أنا الموتُ الأسْودُ الذي يقبعُ على عتباتِ أبوابكم.
أنا الحزنُ القاتلُ مَن سيسودُ منازلَكم وينتزعُ الابتساماتِ من على ثغورِ أطفالِكم، ويحوِّلُها إلى بُكاءٍ وصُراخ
أنا الجحيمُ مَن سيحرِقُ اخضرارَ زرعِكم ويحولُّها إلى رمادٍ أسود.
أنا الدخانُ الأسْودُ مَن سيكسي مدينتَكم بدلاً من السحابِ ويسقيها مطراً مِن الدماء.
أنا الشوكُ السامُّ مَن سيزينُ عالمَكم بدلاً من الورود…
أنا كلُّ شيءٍ كريهٍ وكئيبٍ في هذا العالم سيقُضُّ مضاجعَكم ، ويحوِّلُ سعادتَكم إلى حزنٍ دائم
سترين اليومَ عالمَكِ يحترِق!!!…
(انقطع الاتصال)
حاولتُ الاتصالَ بهِ مرَّةً أُخرى لأسألَه:
لماذا يكرهُ عالمي إلى هذه الدرجة؟؟؟
لماذا يريدُ أن يُعكِّرَ صفوَ الحياة ومزاجَها و يجعلها في جحيم؟؟؟
ولكن للآسف لم يعُدْ ذلكَ الرقمُ موجوداً في الخدمة…
عُدتُ مُسرِعةً إلى المقهى، لكنِّي لم أجِدْه !
كانت الفاجعةُ العُظمى حين رأيتُ عالمي يحترقُ، والثلجُ الذي كانَ يكسو المدينةَ تحوَّلَ إلى بُركانٍ يجري في شوارعِها ، والدُّخانُ الأسْودُ يعُمُّ أرجاءَها، والناسُ في حالةِ فزعٍ وهروب، والأطفالُ في بُكاءٍ وصراخ..
نعمْ أصبحتْ مدينتي كئيبةً وكأنَّها تغرقُ في رمالٍ متحركة كُلُّ شيءٍ بدأَ يتلاشى فيها، فصرختُ بكلِّ صوتي…..
استيقظتُ من منامي، لأصحو على دويِّ انفجارٍ هائلٍ والدخان المتكدِّس في سماءِ المدينة، والقذائفُ تهطلُ موتاً أحمرَ على شوارع المدينة…
انتابني شعورٌ حزينٌ كئيب، وبدأتُ بالبكاء، أيقنتُ أنَّ ذلكَ الكابوسَ المزعِجَ قد تحقَّقَ وسيؤدي بعالمي للسقوطِ كما زَعَمَ ذلكَ الرجلُ المشؤوم
ذهبتُ مُسرِعةً إلى حديقة المنزل وقطفتُ ورودَ حديقتي ودفنتُها اخترتُ لها موتاً بسلامٍ و كرامة خوفاً مِن أن تحرقَها نيرانُ هذه الحربِ الملعونة….
ثم مضيتُ دونَ خوفٍ لا أهابُ شيئاً، فأنا جُزءٌ مِن هذا العالم، وما سيحلُّ بهِ سيحلُّ بي، مُسلِّمَةً مستسلِمةً لا شيءَ يخيفُني….
فهل يا تُرى ستُزالُ الغمَّةُ ذاتَ يوم عن عالمي ؟؟
أسينجلي ذلك الظلامُ الكئيبُ وتشرقُ شمسُ الضُحى معُلِنةً يوماً جديدا..؟
وهل سيُحيي المطرُ جذورَ ورودي الميتة لتزهرَ من جديد..!؟