خاتَمُ سُليمان /بقلم : طارق قديـس

هَذِهِ المَرَّةُ العاشرةُ التي يَبْدَأُ فيها بالكتابة ثم يُمَزِّقُ الوَرَقَة، المَرَّةُ العاشِرَةُ التي تَهْجُرُهُ فيها الكَلِماتُ، كما تُهْجُرُ المَرْأَةُ فِراشَ الزَوْجِيةِ،ويَعْجَزُ فيها عن إتمامِ كِتابِ الاستقالة. شَعَرَ  بِضيقٍ في التَنَفُّس. غادَرَ  غُرفَةَ نَوْمِهِ. حَمَلَ كوبَ الماءِ مَعَهُ وجَلَسَ في الشُرْفَةِ الداخِلِيَّةِ. أشْعَلَ سيجارةَ المارلبورو، وأسنَدَ رأسَهُ إلى يَدِهِ، وأخَذَ يُفَكِّر. “لا بُدَّ من إنهاءِ الكتابِ الليلة. لقدَ طَفَحَ الكَيْلُ !”، قالَ في نَفْسِهِ. غاصَ في التفكيرِ أَكْثَرَ حتى غابَ في الشُرودْ.

 هي تَجْلِسُ في الغُرفِةِ المُجاوِرَة له، تَبْعُدُ عنهُ بِضْعَةَ أمتار. لم يَحْدُثْ أن تَحَدَّثَ مَعَها من قبل، فَعَمَلُها مُنْفَصِلٌ عن عَمَلِه. لَكِنَّهُ كانَيَرْمُقُها بنظره من بَعيد، ويَشَتَمُّ أخبارَها من حينٍ لآخر.

 لا أحَدَ يُنْكِرُ أَنَّ اللَوْنَ الأشْقَرَ المُستَعارَ أضفى على أَلَقِ سُمْرَة وَجْهِها، وتَوَرُّدِ شَفَتَيْها، أَلَقًا مُضاعفًا. وأنَّها تَمْلِكُ ابتَسامَةً مُتَوَهِّجَةً تَجْعَلُ الطَيْرَ يَنْحني لها من السَماء.وأنَ قِصَرَ قامَتِها لا يُشَكِّلُ عائِقًا للإعجاب بقَوامِها الفَتَّانِ المتناسِق. وَلَعَلَّ هذا ما مَهَّدَ لها الطريقَ للتَرَقي في السُلَّمِ الوَظيفي في فترةٍ قِياسِيَّةٍ لا تتَعَدى السَنَتَيْن.

 زَميلٌ أسَرَّ لَهُ بأنَّ الجَمالَ وَحْدَهُ ليس مِفتاحَ نَجاحِها. واسِطَةٌ ما وراءَ ذلك كُلِّهِ. أبْدىقناعَتَهُ أنْ ليسَ هناكَ ما يَمْنَعُ من التقاءِ الواسِطَةِ والجَمال. كُلُّ ما يَعْرِفُهُ أن المسؤولَ الجديدَ يُؤمِنُ بقُدُراتها،بأنوثتها، بِعُنْفُوانِها منذ يَوْمِهِ الأول في العَمَل. ولَعَلَّ هذا ما حدا بِهِ لِجَعْلِها قَريبَةً منهُ، بالفِكْرِ والجَسَد، بأن أفرغَ لها مَكْتَباً في الرُدْهَةِ المقابِلَةِ لمَكْتَبِهِ.

 هو  يُؤْمِنُ بها حتى أصْبَحَ خاتَمًا في يِدِها، تَطْلُبُ مِنْهُ لَبَنَ العُصْفورِ فَيأتي لها به. تتذَمَّرُ فَيَأمرُ لها بما يُرْضيها من عَلاواتٍ وتَرْقِيات. تَضْحَكُ في وَجَهِهِ فيَنهالُ عليها بِعِباراتِ المَديحِ والثَناء حتى يَكادُ أنْ يُقَبِّلَها. الشَهْوَةُ تَقْفِزُ من عَيْنَيْهِ كُلَّما وَقَعَ بَصَرُهُ عليها. فُحولَتُهُ تَعْوي كلما لامَسَتْ يَدُهُ يَدَها. رُجولَتُهُ تَغلي كُلَّما مَرَّتْ إلْيَتَاها من أمامِهِ. إنَّهُ أشْبَهُ بِخاتَمِ سُلْيمانَ في يَدِها، أو مِصْباح علاءَ الدين. تقولُ له: “أريدُ مَكْتَبًاأكبر” فَيقولُ لها: “أمْرُكِ”. “أريد أن تُضاعِفَ راتِبي” فيقولُ: “وَ لِمَ لا !”. “أحتاجُ لإجازَةٍ طَويلَة” فيجيبُ: “لَكِ ذلك”. “حَبَّذا لو اختصرتَ لي ساعاتِ الدَوام” فَيَرُدُّ: “سَمْعًا وطاعة”. وهكذا كُلَّما خَطَرَ في بالِها شيء، فما عَليها إلا أن تَفْرُكَ الخاتم فَيَتِمَّ المُراد. حتى إنِّ إحدى زميلاتِها مازَحَتْها يومًا عندما شَكَتْ لها من آلام الدَوْرَة الشَهْرِيَّة، فقالتْ لها: “لِمَ لا تَطْرَحينَ الموضوعَ على المسؤول ؟ رُبَّما يَجِدُ لَكِ حَلًّا!”.

 رأيتُ ذلك عن قُرْبٍ ، وَسَمِعْتُ الكَثيرَ. لم أكْتَرثْ لها. لم أهَتَّمْ بِشيءٍ مما تَرَدَّدَ هنا وهُناك، حتى أتى الخَبَرُ  المُفاجِئ. لقد أصْبَحَتْ مُديرَتي وَصِرْتُ تابِعاً لها ! هُنا استفزَّني القَرارُ. أنا أقَدَمُ منها. أنا أقْدَرُ منها. ولا مَجالَ لأنْ يَكونَ مِثْلي في سفينتها وهي قائِدَةُ المَسيرة. دَخَلْتُ إلى مَكْتَبِ المَسؤولِ. عَبَّرْتُ عن غَضَبي، وعن عَدَمِ قُبولي بالقَرار. حاوَلَ تَهْدِئتي لكن دون جدوى. عندها قَرَّرْ مَنْحي إجازةً للراحَةِ والتفكير. وها هي المدةُ في يَوْمِها الأخير.

 أنهى سُقوط رمادِ السيجارة على يَدي حالةَ الشرود الطَويلة. خَرَجْتُ من الشُرْفَةِ. عُدْتُ إلى الغُرفَة. جَلستُ أمامَ الأوراقِ البيضاءِ في مَكْتَبي، أعَدْتُ إدارةَ عَجَلَة التفكيرِ من جديد، إلا أنَّ الحيرةَ مازالَتْ على حالِها، ومازالَ القَلَمُ يأبى أن يَبوحَ بحُروفِهِ فوقَ كِتابِ الاستقالة.

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!