خصام / بقلم :هيا المرزوقي

لصحيفة آفاق حرة

****************

معقولة !!
أ مازالتْ الأرضُ تَدورُ، وَالسَّماءُ بِمَكانِها ! الشَّوارِعُ تَضِجُ بِالنَّاسِ ، وَالمُوسيقى تَشغَلُ الحَيزَ السَّمعي لِكُلِ مُرتادي المَقاهي ، الأرصِفَةِ بِألوانِها المَعتَادَةِ ، حَجَرَةٌ بِيضاءٌ وَأخرى سَوداءٌ ، صَوتُ مُواءِ القِطَطِ يُنافِسُ الهَمَسَاتِ في مَواقِفِ البَاص .
المَارُّونَ مِن تَحتِ نَافِذَتي يُلقُونَ التَّحايا على بِعضِهِم البَعض .
كُلُّ شِيءٍ في مَكانِهِ استيقِظَ مَعَ بُزوغِ الفَجرِ هذا الصَّبَاح إلا أنا مُستَلقِيَةٌ على بَلاطِ المَطبخِ أنزِفُ دَمًا وَعَينايَ شَاخِصَةً نَحوَ السَّماءِ فَمي مَفتُوحٌ لَكِنِّي لا أتَحَدَّثُ ، يَدِي اليُمنى على قَلبي الذي لم يَعُد يِنبِضُ ، إحدى ساقَي تَحتَ جَسَدي ، عَبَثًا أحاوِلُ أن أمُدُّها ..
كُلُّ ما أتَذَكَّرُهُ وَأنا أرَاني على هَذِهِ الحَالَةِ هو تِلكَ اللحَظاتِ التي وَضَعَ بِها الرَّجُلُ البَدين يَدَهُ على فَمي لِأصمُتَ لا أعرِفُ إن كان يَقصِدُ أن يَجعَلَني أصمُتُ إلى الأبَدِ أو أنَّ حَظِّي هَذا اليَومَ تَوَقَّفَ عَن دَعمي ، مُقاوَمَتي الفَاشِلَةُ وَأنا أحاوِلُ الفِرارَ بَعدَ أن عَضَضتُ يَدَهُ في المَطبَخِ كَانَت هي مُحاوَلَتي الأخيرةَ لِلبَحثِ عَن طَوقِ نَجاةٍ ! أو سِكِّينٍ يُمكِنُ أن أُصيبَهُ بِها لَم أكن أنتِظِرُ الرَّصَاصَةَ التي سَكَنَتْ جَسَدي وَحَوَّلَتهُ إلى جُثَّةِ ، غَريبٌ!! مِن جَسَدٍ إلى جُثَّة .
ألَم يَسمَع جاري صَوتَ استِغاثَتي؟
كيفَ لَهُ أن يَسمَعَ ذاكَ العَجُوزُ ، وَهوَ المُصَابُ بِضعفٍ في السَّمعِ !! ترى في ماذا افكر أنا ؟؟
ربما، وأقول ربما !؟
هل أخذَ هذا اللصُ هاتَفي كما أخذَ روحي ؟
هل وَجَدَ خِزنَتي ؟
هل استَطاعَ أن يَفتَحَها؟
هل اكتَشَفَ أنَّها فارِغَةٌ ؟
وَأنَّ ما يُمكِنُهُ أخذُهُ مِن شَقَّتي لا يَستَحِقُ أن يُهدِرَ رُوحِي مِن أجلِهِ!!
مَلَلتً مِن الانتِظارِ ، متى سَيَجِدونَ جُثَّتي؟
اختَنَقتُ بِرائِحَةِ المَوتِ وَالعَفَنِ وَلا أحدَ يَشعُرُ بي !!
هل هَيَ أيَّامٌ أم سُوَيعات ، مَا عُدُّتُ أشعُرُ بِالزَّمَنِ . كيفَ استَطَعتُ أن أنظُرُ إلى جَسَدي وَهوَ عَلى الأَرضِ ، أيُمكِنُ أَنِّي ثَبَّتُ مِرآةً على الأرضِ ، لا لا أذكُرُ أنِّي فَعَلتُها .
لِماذا هَذهِ المَدينَةُ أصبَحَتْ كَقَوالِبِ الإسمَنتِ الجَافَّة ، لَقَد سَمِعتُ صَوتَ أطفَالٍ لَعَلَّهُم زَائرون ، بَدَأتُ أُحاوِلُ أَن أرَحِّبَ بِهم لا أحَدَ يَسمَعُنِي لا يُنصِتُ أَحد ، المُلفِتُ في الأَمرِ أَنِّي لم أَرفَع حَتى يَدي التي أَضَعُها على قَلبي ، رُبَّما أَتَسألُ هل يُؤلِمُنِي إلى تِلكَ الدَّرَجَةِ؟ هل تِلكَ الرَّصاصَةُ المُسافِرَةُ استَقَرَّت فِيهِ بعدَ أَن مَزَّقَت شَرايينَهُ! وَأخيرًا صوتُ جَرسٍ ، مَن ذا الَّذي تَجرَّأ وَاختَرَقَ خَلوَتي مَعَ جُثَّتي ، هذا الصَّوتُ الَّذي يُنادي بِاسمي أَعرِفُهُ جَيِّداً ، إِنَّهُ صَوتُ أَخي ، لم أسمَعهُ مُنذُ سَنَواتٍ ، لَقد غَادَرَ المَنزِلَ على عجلٍ وَقد كان غَاضِبًا مِنَّي .
أذكُرُ جِدَالَنا السَّخيفَ تَمرُّ عَلَيَّ لَحَظَاتُهُ كَمُرورِ الشَّريطِ السِّينَمائي رَتَيبِ الأَحداثِ .
صَرختُ أَنا هُنا تَعالَ أخي ، جَسَدي النَّازفُ فَقَدَ كُلَّ دَمَهُ ، تَجَمَّدَ مُتَجَلِّطًا على الأرضِ في هِيئةِ دائرةٍ كَبيرَةٍ حَمرَاءٍ يَغلُبُ عليها السَّوادُ ، تَعالَ أخي مُدَّ قَدَمي ، لابُدَّ أنَّها تؤلمني إنَّها تَحتَ جَسَدي مُنذُ وَقتٍ أجهَلُه لَكِنَّهُ طَويلٌ ، طَويلٌ جِدًا أشعُرُ بِثِقَلِ الهَواءِ أرى اللهفَةَ في عَينيكَ القَلِقَةِ ، سَمِعتُ صَوتَ جَارَتي المُتَطَفِّلَةِ الَّتي تَسكُنُ فَوقي، وَهي تَضرِبُ البابَ بِشِدَّةٍ مَعَكَ ، وَهِي تَصرُخُ افتَحي افتَحي ، لا تَكُفُّ تِلكَ الجارَةُ عن الثَّرثَرةٍ وَمُراقَبَةِ الجيرانِ لابُدَّ أنَّها هي مَن أخبَرَتَكَ عن رَوائحَ العَفَنِ المُنبَعِثَةِ مِن الشَّقَّةِ وَعن غيابي .
لا يا أخي لا تُؤذي جَسَدَكَ وَأنتَ تَضرِبُ البَابَ لِتَفتَحَهُ ! يا اللهُ بَدأتُ أختَفي مُنذُ أَن انحَنَيتَ لِتَضُمَّ جَسَدي بينَ يَدَيكَ ، أو رُبَّما بَعدَما سَمِعتُ الصَّرخَةَ الَّتي أطلَقتَها قَبَلَ أَن تَدفَعَني إلى حُضنِكَ .
بَدَأتْ تَتَلاشَى خَلايا روحي كَما تَنطَفِئ الشَّمعَةُ وَيَخرُجُ مِنها ذاكَ البُخارُ الأَسوَدُ وَيَتَحَلَّلُ في حُزنٍ مَهيبٍ .
لَيتَكَ لم تَترُكني لَيتَكَ كُنتَ مَعي لَرُبَّما لم يَتَجَرَّأ هذا اللصُ على اقتِحامِ الشَّقَّةِ.
لم يَبقى مِن روحي سِوى النِّصفِ العُلويِّ يَتبَعُكَ وَيمشي بِجِوارِكَ كَما في أيَّامِنا الخَوالي وَنَحنُ نَطرُقُ الشَّوارِعَ نَتَقاسَمُ الحَلوى وَنَلعَبُ بِالكُرَةِ لَكِنِّي الآن أراقِبُكَ وَأنتَ تُدَثِرُني بِالتُّرَابِ تُواري جَسَدي المَلفُوفَ بِالقُماشِ الأبيَضِ ، اختَنَقتُ مِن العَبرَةِ وَأنا أسمَعُكَ تَخبِرُهُم بِأنْ يَترُكوا وَجهي مَكشُوفًا لأنِّي أختَنِقُ بِسُرعَةٍ .
عِندَما التَفَتَّ لِتُغادِرَ المَقبَرَةَ انفَجَرتُ كَبَالُونِ وَاختَفَيتُ أنَا لم أعُد مَعَكَ . لم أَعُدْ وَلن أَعودَ أبَدًا .
تُرى هل كانَ الأمرُ يَستَحِقُ أَن نَتَخَاصَم ، أَن تَمُرَ أيَّامي الأَخيرَةُ بِدُونِكَ ، أَن لا نَعودُ لِنَتَقاسَمَ الحَلوى أو نَلعَبَ الكُرَة؟

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!