أجلس بمحاذاة الشاطئ الجميل و أعبث بالحصى الأبيض الصغير الناعم الذي حلَّ محل الرمال الذهبية ليسمح للموجات الصغيرة بالحفاظ على نقاءها وشفافيتها.. أتأمل انكسارها و تتابُعها الواحدة تلو الأخرى دون مللٍ في حركة تجعلك تتأرجح على ايقاعاتها كأنك تركبها، بريق الماء وصفاءه يمنح شعورا بالطمأنينة و الأمان …
تحملني رؤية الأفقِ الأزرقِ إلى فضاءات لا حدود لها، حيث أحلق عاليا بمحاذاة طيور النورس البيضاء لأعود و أحط على الشاطئ من جديد ..أجمل ما في الأمر أن لا أحد يعرف بمكاني و ربما لم يلحظ أحدهم غيابي منذ الأمس.
بينما صرت أشعر أني جزء لا يتجزأ من هذه اللوحة الفاتنة للطبيعة.
يقطع عليَّ خُلْوتي صوتُ خطىً تتقدم نحوي ، يقفز قلبي من مكانه، لم أقطع كل هذه المسافة لأجد نفسي قد لحق بي أحد ما ، أسمع وقع الخطى يقترب، أرفع رأسي فإذا هو رجل متوسط العمر، أسود الشعر بنيَّ العينين ، طويل القامة ، قوي البنية ، تنسجم وسامته مع جمالية المكان، أزيح نظري سريعا فأنا لا أعرفه ، و لا يهمني أمره، تجاهلت مروره، و تمنيت لو أنه يسرع بخطاه ليخلي المكان و يمضي ..فيعود فضائي إلى هدوءه حيث لا مناجاة إلا مع الطبيعة .. انتفضت حين سألني ؛ أتحبين البحر ؟ منذ ساعات و أنا أراقبك تعانقين الشاطئ و تغازلين الأمواج ؟
ما كدت أفكر كيف أجيب حتى جلس بجانبي … لم أمانع …
تحدثنا وقتا طويلا ، في مواضيع مختلفة، لم نتعرف على بعضنا حتى، انسجمنا بشكل غير طبيعي دون مقدمات، دون رسميات ، كأننا نعرف بعضنا منذ سنوات ، جرتِ الأحداث بتلقائية غريبة و مريبة في آنٍ واحد.. مرت ساعات طوال بين حكي، ضحك ، فضفضة…. وسعادة خفية …بدأنا نستجديها بتكرار اللقاءات.. نتحدث عن كل شيء ، أي شيء ، أحيانا لا ننطق بكلمة فتحل لغة الصمت، تشفي غليل الكلمات….
كنت قد أحرقتُ جثّتَها بداخلي.. نترتُ غبارَها على مساحات الماضي، ليس لدي الكثير من الوقت لأحزن من أجلها و لا لأُقيم مراسيم العزاء ، ما الجدوى من ذلك، لدي الكثير من العمل لأقوم به، وقتي ضيق و أحلامي كبيرة ، ولن يكون البكاء وراءها إلا حجَرَ عثرة في مساري، أنثرُ غبارَها على كل المحطات و أمضي… أعترف أن لدَّي بعضٌ من الحسرة ، وددتُ لو كان بإمكاننا المُضِّي معا ، جنبا إلى جنب. .لم يكن ذلك ليكون صعبا، لكن إهمالي لها جعلها تنطفئ يوما بعد يوم على غفلة منّي، جعلها تموت موتا بطيئا، فصارت تختفي رويدا رويدا إلى أن فقدتها و سط الزحام… لا يمكنني اليوم أن أظلم نفسي كذلك و أُغرقَها في بحرٍ من الندم و الأسى، سيمكنني العيش بدونها، كانت تجعلني أبدو ضعيفة ، لربما كان رحيلها فرصة لي لتحقيق كل الأحلام، و الحصول على كل النجاحات..للبدءِ من جديد، بأسلوبٍ جديد، بحرية أكبر… أجل الحرية ، كلمة جميلة جداً و مغرية للغاية ناضلت من أجلها كثيرا ، لكنها تبتعد كلما اقتربت، و تختفي كلّما أيقنتُ أني أملكها بين يديّ.
ماتتْ امرأة كانت تسكنني……
مضَيْتُ قُدُماً و نسيتُ أنَّ طعمَ الحياة قد يحلو لو كُنّا بِجانب من نُحب ، وأنَّ أشياءَ صغيرة تكفي لِنشعُر بِسعادة كبيرة ، وأننا رُبما قد نُضيّع أيام عُمرنا في مكانٍ خطأ ، ومع أشخاصٍ خطأ ، و بِإحساسٍ خاطيء تِجاه الأشياء و المواقف …
كنت قد حسمتُ أموراً كثِيرة و ها أنا اليوم لا أستطيعُ التوقف عن حبِّك ، ليس الأمر بيدي، حبّك مصنّف خارج سيطرة العقل، لا تشمله إرادة … ترى ما الذي فعلته ليشتاق لك قلمي و أوراقي، أكتب لك و عنك..
ما الذي فعلتَه حتى تضُمَّك أحلامي… نوما و يقظة ..
كيف قلبتَ موازين أنوثتي، كيف ألتقيها بعد طول غياب، كنتُ قد صدَّقتُ أنها رحلت إلى الأبد.. و ها أنت تُعيد جمع شتاتها، تعيد إليها أمجادَها و سحْرَها، و ها أنا ذا
أتلو ترانيم هزيمتي أمام غرابة الموقف و صعوبته ، أمام جبروت حبك…
لستُ أدري ماذا فعلت حتى غيَّرْتَ اتجاه طريقي، لا أعرف ما يحدث لي ، ولا ما يحدث لنبض قلبي كلما جاء ذِكرك، فما بالك لما تراك العين.
من أين لي أن أقاوم هذه الجرعات المفرطة منك حدَّ الإدمان عليك
كيف يسكن الحب أحلامنا ، ويختفي كلما أشرقت شمس الواقع…
أي تعويذة هذه ، وأي عطية تلك التي تمكَّنتَ بها من إحياء رُفاتِ امرأة …
تكررت لقاءاتنا، و صار الفرح لها عنوانا، كأن روحي تحتفي كل يوم بميلاد جديد..
قطعت كل تلك المسافة كي ألقاك على الشاطئ كما أوّل مرَّة.. أسابق الزمن كي لا أتأخر عنك …
وصلت ..لم أرك ، لم تلمحك عيناي.. كنت تسبقني دوما إلى مواعيدنا، أجوب الشاطئ ذهابا وإيابا، لا تكاد تحملني رجلايَ قلقاً..جلست لبرهة أجمع شتات أفكاري ، و أهدئ من هول مخاوفي،
–تبحثين عنه؟ فاجأني صياد مسِّن كنا نلمحه من بعيد بسؤاله ..
–أجل ، لا أدري ما خطبه، لقد اتفقنا ان نلتقي هنا اليوم..
– لا تُتْعبي نفسك يا ابنتي، لقد لفظه البحر بالأمس ليلا …
انقطعت أنفاسي و فتحت عينيَّ على مصرعيهما دون أن أنبس بكلمة فأردف الشيخ الصياد :
–كانت زوجته تخبر الشرطة إنه ترك رسالة وداع…
– زوجتُه؟؟ وداع ؟؟….
رحل عني دون وداع….. و ماتتْ امرأة كانت تسكنُني، رحَلَت إلى الأبد…