رحلة بلا إياب/ بقلم:عبد السلام كشتير ( المغرب )

أحبها بجنون، ولم يفكر يوما في أنثى غيرها. نما حبهما منذ الطفولة حيث جمعهما نفس الحي ونفس المدرسة، والفضاء نفسه الذي كان يأويهما ورفاقهما من الأطفال يمرحون ويلعبون والبراءة تحفهم. لما اشتد عوده وبدأت تضاريس جسمه تتغير تدريجيا، العضوية منها والعقلية والنفسية وهو يغادر عالم الطفولة، لمس قوة حبه لها وتأكد مما يكنه قلبه من شغف وهيام بها، وأصبح يغار عليها من نسمة الريح. يذكرها ويوصيها بل ويجبرها أحيانا بأن لا تتحدث مع باقي الصبية. بادلته نفس الشعور واحتجبت عن الزقاق لما نضجت أنوتثها وأصبحت لا تخرج إلا إلى المدرسة، وبرفقة والدتها لقضاء بعض الأغراض.. كبرا وكبر هيامهما ببعضهما، ولما اقتنع أنه قادر على تحقيق حلمه وتنفيذ مشروعه، قرر خطبتها بعدما أخبر والديه بالقصة كاملة… بالرغم من أن الجميع يعلم قصة حبهما.
كانت المفاجاة غير متوقعة وصادمة. لقد رفضته أسرتها خطيبا وزوجا لابنتهما. أحدث الخبر زلزالا قويا دمر العلاقة بين الأسرتين ونسف كل ما بناه الحبيبين من أحلام…ألمه موقف والدها وعمق جرحه ونزل عليه كالصاعقة، أحرقت قلبه وكيانه ووجدانه. ولم يقو على الصمود أمام جبروت الحزن والانزعاج، وكلام الجيران.. وعدته والدته بزوجة أفضل وأسرة أرقى.. لكنه لم يقبل بغيرها. إما هي أو لا شيء..!
لم ينتظر طويلا، حزم حقيبته ورحل عن مدينته إلى وجهة مجهولة بالنسبة لكل معارفه، بعدما طلب انتقالا من المؤسسة التي عين فيها إلى أخرى في مدينة نائية ليبتعد عن كل ما من شأنه أن يذكره بحبيبته وإهانة أسرتها له.
لم يلحظ عليه أحد في مدينته الجديدة ما هو فيه. فلم يطلع أيا كان على حاله ومٱله ومشاريعه.. سمى نفسه لغريب وأعطى لنفسه صفة الأستاذ تارة والأديب تارة أخرى، ولو أن جل من يعرفونه في مدينته الجديدة لا يهتمون بالصفة الثانية.. ما لاحظوه عليه وعرف به، الاستقامة ومداومة الصلاة في المسجد. هكذا عاش بينهم وهو يحاول قدر المستطاع الانصهار في الحياة الطبيعية لمدينته الجديدة الهادئة، والاندماج تدريجيا في مجتمعها. صار يلبس لباسهم المحلي المعروف بالجلباب الفضفاض والقصير قليلا والشبشب الأصفر، والقميص الصيفي المتميز.. كما أعتاد على طعامهم وما يقدمه المطعم الذي يتناول فيه وجباته الغذائية..
صمم لغريب على الامتناع عن التواصل مع أي كان عبر الهاتف أو أي وسيلة أخرى، والاختلاء بنفسه ما أمكن، حتى ينأى عن كل ما يعكر صفو مزاجه أو يذكره بماضيه الأليم، ويخل بالتوازن الطبيعي الذي ينشده.. يستعمل هاتفه الذكي في تدوين أفكار خواطره التي عادة ما تنمو وتتوسع لتصبح قصصا ينشرها على صفحته الفيسبوكية تعكس معاناته مع الغربة، وٱثار الصدمة التى تلقاها من أسرة حبيبته.. وحتى يتماها مع هذا التخفي، غير كل معطياته الرقمية المعتادة بأخرى جديدة يحفظها لنفسه، ولم يبدها لأي كان حتى لا تكون دليلا ماديا ومؤشرا على مكان وجوده.. أراد أن يتوارى عن الأنظار وعن كل من له علاقة به. ربما يغير من توجهه الحالي مستقبلا أو قد يعود إلى مدينته.. لا يعلم الٱن لذلك زمنا محددا. ساورته مثل هذه الأفكار مرات. إنما لا زال يصر على البقاء خارج التغطية.
أعجب بهذه المدينة وبهدوئها وببساطة سكانها وأجوائها العذبة وطبيعتها الخلابة ونسائمها الحلوة.. فلا يفكر في الرحيل عنها الٱن.. طالما أنه في قمة نشاطه وحيويته وفي كامل قواه العقلية والبدنية. وأن فضاءات المدينة تمنحه متعة لا مثيل لها قد تنسيه همومه والجراح التي عانى منها زمنا طويلا.
ارتمى على أرض مرتفعة حيث تجثم الصخرة التي يرتادها عادة كلما أعيته رياضة المشي، فانزوى إليها ليستريح على ظهرها مدة من الزمن، ثم يستأنف بعد ذلك نشاطه الرياضي أو يعود إلى شقته كما عادته.
تمدد مطمئنا إذن على الصخرة المرتفعة التي لا يصعد إليها ماء البحر إلا نادرا..
اجتاحه مرة أخرى ذلك الحلم الطويل الذي يسيطر عليه على الدوام والذي كان سببا في هجرته، وهو يتأمل المدى الممتد أمامه والتموجات التي تُرسم على سطح البحر بهدوء وتناسق لا مثيل لهما. وانعكاس نور الشمس الساطع على المياه، فيسير بنظره إلى حيث لا يدري. والهواء البحري العليل ينعش جسمه ويستلذه أكثر فأكثر.
يفتح لغريب عينيه ويغلقها تبعا لهذا الإيقاع ليذعن في الأخير لغفوة لذيذة انتابته وهو مستلقي على صخرته، فاستبدت به هذه اللذة وأرغمته على الإستسلام لسطوتها..
دخل عميمر المعروف بحمقه بين الناس وتسكعه الدائم في شوارع وأزقة المدينة، كعادته محدثا ضجيجا وهو يفتح باب المقهى الذي يجلس فيها الغريب.. وهو يسرع في كلامه وملامحه منخطفة. لما بلغ وسط صالة المقهى وقف مشيرا بسبابتهه إلى البحر عبر الواجهة الزجاجية التي تيسر رؤية المرفأ وجزء مهم من الشاطيء، وهو يصيح دون توقف :
– لغريب .. لغريب .. لغريب ..!
حاول النادل وبعض الزبائن استفساره عن انزعاجه وأقواله ..
أخبرهم بأن الغريب نائم فوق الصخرة هناك لا يتحرك!!!


 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!