عدنا في قطار يأبى الوصول لمحطته الأخيرة، كأنه يعلم ما ينتظرنا في محطة الوصول، فأشفق علينا وتباطأ في المسير، سواد الليل لون الحداد السرمدي الذي يكسو مآسينا، وكلمات (العديد) رسمت لنا طريقًا من الألم والحزن الذي بدأ ولن ينتهي:
كـــنـت أشـــيل الهَـم أنا وأمـي
وحــدي أشيــل الـهَـــم يـاهـمى
كــنــت أشــيل الهَم أنــا وأختي
وصبحت أشيل الهَم أنا وحـــدي
كلماتهم خناجر زادت الجرح اتساعًا، وعندم انقضى (الواجب) لم يقدموا سوى بعض نظرات الشفقة، و العبارات التي اهترأت من كثرة الاستخدام حتى فقدت معناها:
– البقية في حياتك…! ،
– شد حيلك…!
فهي عبارات لا تُبرئ جرحًا، ولا تُذهب حزنًا، لا يعلمون أن ما حدث -منذ أيام قليلة- مأساة بدأت ولن تنتهي.
عندما وقفنا أمام باب الشقة شعرت أنها بالداخل، تجلس كعادتها إلى ماكينة الخياطة التي كانت -دون أن تدري- تقايضها على عمرها وصحتها، فكل ثوب أخرجته لها تلك الماكينة، سرق من عمرها أيامًا وشهورا، حتى بدت ضعف عمرها الحقيقي.
فتح أبي باب الشقة، لم نجد سوى السكون والظلمة، ورائحة القبر وشبح الموت يطغيان على المكان، كل شيء استسلم للسكون، لا توجد حركة، حتى ماكينة الخياطة التي ما كفت يومًا عن الضجيج صمتت أخيرًا بعد أن انتصرت عليها، صورتها داخل البرواز اختفت منها الابتسامة، كأنها كانت تعرف ما سيحدث، الجدران تتساقط عليها الرطوبة دموعًا……… تبكي تلك التي سافرنا بها وعدنا بدونها، فقد غادرت القطار دون أن تكمل الرحلة…