ترجمة محمد عبد الكريم يوسف
مراجعة سوسن علي عبود
رنم صوت الساعة في غرفة المعيشة : تك توك ، الساعة السابعة . حان وقت الاستيقاظ .حان وقت الاستيقاظ. إنها الساعة السابعة . وكأنها خائفة من أن أحدا لن يستيقظ . كان المنزل في الصباح خاويا. رنمت الساعة بصوتها ثم كررته وكررته في الخواء . السابعة وتسع دقائق . حان وقت الفطور . السابعة وتسع دقائق.
في المطبخ تنهد فرن إعداد الفطور تنهيدة خافتة ولفظ من داخله الساخن ثمان قطع من خبز التوست البني المشوي جيدا وثمان بيضات مشوية بلون أشعة الشمس من الأعلى وست عشرة شريحة من لحم الخنزير المقدد وفنجانين من القهوة وكأسين دافئين من الحليب.
قال صوت ثان آتٍ من سقف المطبخ : ” اليوم هو الرابع من أب عام 2026 في مدينة إلينديل في كاليفورنيا ” ثم كرر التاريخ ثلاث مرات لغرض الذكرى وتابع يقول : ” اليوم عيد ميلاد فيزرستون .اليوم الذكر السنوية لزواج تيليتا . اليوم يستحق دفع التأمين والماء والغاز وفواتير الكهرباء.”
وفي مكان ما في الجدران سُمع صوتُ قاطع كهربائي ثم اشتغلت أشرطة التذكر تحت رقابة عينين كهربائيتين .
الثامنة ودقيقة . تك توك . الساعة الثامنة ودقيقة واحدة . حان وقت الخروج للمدرسة. حان وقت الخروج للعمل. أسرعوا …أسرعوا. الثامنة ودقيقة . ليس هناك صوت أبواب تفتح وتغلق ولا أصوات خطوات ناعمة بالخفين المطاطيين على السجاد. كانت تمطر في الخارج . كان صندوق التنبؤ بالطقس في الخارج يرنم قائلا : مطر ..مطر ..اذهبوا بعيدا ..ارتدوا الأحذية المطاطية والمعاطف اليوم..” ثم بدأ المطر ينهمر فوق المنزل الخاوي محدثا الصدى .
وفي الخارج، رفع المرآب بابه ليكشف سيارة في الانتظار. بعد فترة انتظار طويلة تأرجح الباب متدليا لأسفل مرة أخرى.
في الثامنة والنصف كان البيض قد تغضن وكان الخبز المحمص مثل الحجر.ثم قام الإسفين المصنوع من الألمنيوم بكشط الصحون ورميها في السيفون المعدني ورماها بعيدا بالمياه نحو البحر البعيد . ثم رُمِيَت الصحونُ المتسخة داخل جلاية بالماء الساخن وخرجت منها جافة لامعة .
رنمت الساعة : التاسعة والربع . حان وقت التنظيف . ثم اندفعت مجموعة من الروبوتات الصغيرة على شكل فئران من جحورها في الجدران . وامتلأت الغرف بحيوانات التنظيف المصنوعة من المطاط والمعادن . نفضت الكراسي وأدارت شعرات شواربها بحركة دائرية سريعة ثم عجنت بساط غرفة القيلولة وامتصت بلطف ما تراكم من غبار وكأنها غزاة غرباء الأطوار ثم اندفعت مسرعة إلى جحورها . خفتت العين الكهربائية . المنزل الآن نظيف.
العاشرة تماما. بزغت الشمس من وراء المطر. كان المنزل ينتصب وحده في مدينة من الأنقاض والرماد. كان هذا هو المنزل الوحيد الذي بقي واقفا. في الليل كانت المدينة المدمرة تتوهج ببريق مشع يمكن أن يُرى من أميال .
العاشرة والربع بدأترشاشات مياه الحديقة ذات اللون الذهبي بالدوران وملأت هواء الصباح الناعمبنثرات من ضياء . وغطت المياهألواح زجاج النافذة بالرذاذ ، وإذا هبطت منالجهة الغربية المتفحمة تجد أنالمنزل حُرق حتى لم يبق عليه شيء من الطلاء الأبيض.كانت الواجهة الغربية من المنزل بأكملها سوداء عدا خمسة أماكن. هنا، خيالمرسوم لرجل يجز عشب الحديقة . وهنا صورة لامرأة منحنية تقطف الأزهار . والمشهدالأبعد من ذلك، وكأنصورهم أحرقت على الخشب في لحظة واحدة مخيفة .هناك صبي صغير يداه في الهواء وفي الأعلى صورة كرة مرمية في الجو ، ومقابله فتاة رفعت يديها للقبض على الكرة التي لم تنزلمطلقابقيت بقع الطلاء الخمسة : الرجل والمرأة والأطفال والكرة. والباقي كان على شكل طبقة رقيقة من الفحم ملأ رذاذ المطر الخفيف الحديقة مع المغيب .
وحتى هذا اليوم، كم نجح المنزل في الحفاظ على هدوئه . وكم كان يستفسر بعناية “من هناك؟ ما هي كلمة السر؟ “. ولم يحصل على إجابة من الثعالب الوحيدة والقطط التي تئن ، فقد أغلق نوافذه ورسم ظلال في أسلوب قديم جميل مع نظام الحماية الذاتية التي يحميها جنون العظمة الميكانيكية.
كان يرتعش مع كل صوت، كما يفعل المنزل. إذا ارتطم عصفور بنافذة، يرتفع الظل. فيجفل الطائر ويطير ! كلا ، حتى الطيور يجب أن لا تلمس المنزل!.
كان المنزل محجة ًلعشرة آلاف زائركبير وصغير يقدمالخدمة للحاضرين في الجوقات. ولكن الآلهة رحلت بعيدا، وطقوس الدين استمرت بلا معنى و بلا جدوى.
الثانية عشرة ظهرا.
الكلب يئن و يرتجف على شرفة المنزل الأمامية .
تعرف الباب الأمامي على صوت الكلب وفتح له . الكلب كان في يوم من الأيام كبيراوسمينا، ولكنه صارعظاما مغطاة بالقروح ، دخل المنزلوتجول فيه ، وترك خلف أقدامه الطين. وخلفه تحركت الفئران الغاضبة . الغاضبة من الاضرار وأن عليها التقاط الطين. الغاضبة من الفوضى التي حدثت .
ما إن دخلت قطعة من الورق تحت الباب حتى انفتحت لوحات جدارية ، ومضت الفئران المصنوعة من خردة النحاس مسرعة نحو الخارج . صار الغبار المتسرب و الشعر و الورق بين فكينصغيرين من الصلب ثم تسابقت الفئران نحو جحورها. هناك، تم إسقاطها مثل طاغوت الشر في زاوية مظلمة الأنابيب التي تغذي خلية في قبو في الأسفل.
ركض الكلب في الطابق العلوي، يصرخ صراخا هستيرياعند كل باب، وأدرك في النهاية ، كما أدرك المنزل، أن الصمت فقط كان هنا. وشم الهواء وخدش باب المطبخ. وراء الباب، كان الموقد قد صنع الفطائر التي ملأت المنزل برائحة ذكيةمع رائحة شراب القيقب.حدثت رغوة على فم الكلب ، واستلقى على الباب، يشم الرائحة ، تحولت عيناهإلى نار. وصارتتدور بعنف في أرجاء المكان وعض على ذيله ودار حول نفسه في جنون وتوفي. استلقى في الصالون لمدة ساعة
رنم الصوت : الساعة الثانية .
وأخيرا استشعرت أفواج الفئران بدقة وأسرعت بخفة نحو الخارج مثل الأوراق الرمادية التي تطيرها ريح كهربائية .
الساعة الثانية والربع .
اختفىالكلب.
في القبو، توهجت النار في الموقد فجأة وقفزت زوبعة من الشرر نحو الخارج في المدخنة.
الساعة الثانية و النصف .
انبثقت الطاولات الجسرية من جدران الفناء ، رفرف ورق اللعب على الوساداتبغزارة ملحوظةثم ظهر المارتيني على مقعد مصنوع من خشب السنديان مع سندوتش البيض مع السلطة . عزفت الموسيقى.
ولكن الطاولات كانت صامتة وورق اللعب لم يمسه أحد .
في الساعة الرابعة طويتالطاولاتمثل فراشات كبيرة مرة أخرى ودخلت الجدران المحيطة.
الساعة الرابعة والنصف
جدران حظيرة التربية متوهجة.
أخذت الحيوانات أشكالا : الزرافات الصفراء، والأسود الزرقاء ، الظباء الوردية، الفهود الليلكية تثب مرحا في مادة كريستالية. الجدران كانت من الزجاج.نظرت إلى اللون والخيال.التقطت الأفلام المخفية على الرغم من أن مسنناتها المزيتة جيدا، والجدران نجت.تم تزيين أرضية الحضانة لتشبه مروج الحبوب .وفوقها ركضت صراصير الألمنيوم وصراصير الحديد ، وفي الهواء الساخن رفرفت فراشات ذات أنسجة حمراء رقيقة متراجعة وسط رائحة حادة من البثور الحيوانية!كان هناك صوت من خلية صفراء كبيرة متعبة من النحل داخل كيس منتفخ مظلم وزئير أسد كسول . وكان هناك طعنة قدم أوكابي وهمسات المطر في الغابة الجديدة ، وكان هناك حوافر أخرى تقع على العشب الصيفي المتراص . الآن الجدران المذابة على مسافة الوصول إلى الأعشاب الضارة ، ميل بعد ميل ، والسماء الدافئة التي لا نهاية لها. وانسحبت الحيوانات بعيدا إلى المناطق الشائكة وفتحات المياه. كانت هذه هي ساعة الأطفال .
الساعة الخامسة. الحمام مليء بالماء الساخن الصافي .
الساعة السادسة . الساعة السابعة . الساعة الثامنة . قُدّمَت أطباق العشاء وكأنها خدع سحرية . في المكتب يسمع صوت نقرة . وكان هناك نار تشتعل بتوقد ودفئ. في موقد معدني مقابل المدفأة . ثم برز نحو الخارج سيجار وعلية مسافة نصف بوصة من الرماد المعلق به . الجو يعبق بالدخان والانتظار.
الساعة التاسعة. دفأت الدارات الكهربائية المخفية الأسِرَّة لأنالليالي كانت باردة هنا.
الساعة التاسعة وخمس دقائق . صوت يتحدث من سقف المكتب : “السيدة مكليلان، أي قصيدة تريدين سماعها هذا المساء؟”
كان المنزل صامتا.
وقال الصوت في النهاية: “بما أنك لا تعبرين عن قصيدة مفضلة معينة، سأختار قصيدة عشوائيا”. وارتفعت الموسيقى هادئة لدعم الصوت. “سارة تيسدال، كما أذكر، هي الشاعرة المفضلة لديك …”
“ستهطل أمطار ماءالنار الحامضية وتفوح رائحة الأرض، وتبتلع وهي تدور بصوتها المتلألئ كل شيء .
والضفادع في البرك تغني في الليل، وأشجار البرقوق البرية في بياضهاالهائل.
سوف ترتدي عائلة روبينز ريشالنار ، وترنمبما تحبقرب سياج الأسلاك المنخفض .
ولا أحد يعرف الحرب، لا أحد سوف يهتم أخيرامتى تحدث .
لا أحد يهتم، لا الطيور ولا الشجر، إذا هلكت البشرية تماما ؛
والسيدة سبرينغ نفسها ، عندما تستيقظ في الفجر لن تعرف أننا رحلنا ”
و النار تشتعل على الموقد الحجري وسقط السيجار بعيدا وتحولإلى تل من الرماد الهادئ على النفاضة . الكراسي الفارغة تواجه بعضها البعض بين الجدران الصامتة، والموسيقى تعزف .
عندالساعةالعاشرةبدأالمنزليموت .
هبتالرياح. سقطتفروعالأشجارالمتهالكةمنخلالنافذةالمطبخ. فتحطمتمذيباتالتنظيفالمعبأةفيزجاجاتفوقالموقد. فاشتعلتالغرفةفيلحظة ! صرخصوت “نار” . أضواءالمنزلتومض،مضخاتمياهالإطفاءاندفعتمنالسقف . ولكنالمذيباتتنتشرعلىالمشمعتلعقوتأكلكلشيءوتتسربمنتحتبابالمطبخ،فيحينأخذتالأصواتترتفعفيجوقة: “نار،نار،نار!”
حاولالمنزلإنقاذنفسه. أغلقتالأبوابنفسهابإحكام،ولكنالنوافذانكسرتبسببالحرارةوالرياحفجرتالناروامتصتها.
حاول المنزل الصمودبينماالنارالمشتعلةتتوهجفيعشرةملياراتمنالشررالغاضبوتنتقلبسهولةمنغرفةإلىأخرىثمتصلالدرج. فيحينصرختفئرانالمياهمنالجدرانوأطلقتمسدساتالمياهوذهبتلأكثرمنذلكفأطلقتبخاخاتالجدارانلتضخزخاتمنالمطرالميكانيكي.
ولكن بعد فوات الأوان .في مكان ما تنهدت إحدى المضخات وهي تتوقف ثمتوقف مطر التبريدونفدت إمدادات المياه الاحتياطية التي شغلت الحمامات وغسل الأطباق لعدة أيام هادئة .
صعدت النار الدرجوتغذت على لوحات بيكاسو وماتيس في القاعات العليا وكأنهاأطباق شهية وتخبزاللحم الزيتي وتقرمش بهدوء لوحاتالكنفا في هيئة قشور سوداء.
ثم بدأت النيران بالأسرّة وأطلت من النوافذ وغيرت ألوان الستائرثم أتت على الإطارات الداعمة .
أطلت الربوتات العمياء من مصائد النيران العلوية وأطلقت من فيها مواد كيميائية خضراء .
توقفت النيران مثل فيل يشاهد أفعى ميتة . الآن هناك عشرين أفعى تجلد الأرض وتقتل النيران بسمها البارد الأخضر الصافي . لكن النار كانت أذكى فقد أرسلت ألسنة اللهب إلى خارج المنزل من خلال التكية إلى المضخات . حدث انفجار . لقد تشظى عقل التكية الذي يوجه المضخات إلى قطع صغيرة برونزية فوق دعامات المنزل .
اندفعت النار إلى كل خزانة وأتت على الثياب المعلقة فيها .
ارتجف المنزل عظمة فوق عظمة من خشب السنديان وصار عموده الفقري عار تماما وينكمش من الحرارة ثم ظهرت أسلاكه وأعصابه وكأن جرّاحا مزق جلده وترك أوردته الحمراء وأوعيته الشعرية ترتجف في الهواء الحار. النجدة . النجدة . أسرعوا .أسرعوا . نهشت النيران المرايا مثل أول هجمة من جليد الشتاء . صاحت الأصوات نار .نار . أسرعوا . أسرعوا وكأنها تغني أغنية أطفال حزينة ارتفعت عشرات الأصوات ثم انخفضت مثل أطفال يجهدون في الغابة ..لوحدنا ..لوحدنا . ثم ذبلت الأصوات عندما بدأت قشور حماية الأسلاك تنتفخ مثل حبات الكستناء. ثم بدأت الأصوات تذوي واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ثم تموت .
في موطنهاأحرقتالغابة . زأرت الأسود الزرقاء وهربت الزرافات الأرجوانية.ركضت الفهود في دوائر وتغير اللونوهرعت عشرة ملايين من الحيوانات راكضة أمام النار المشتعلة ثم اختفت باتجاه النهر البعيدالذي يتصاعد منه البخار .
وتوفيت عشرة أصوات أخرى . في اللحظة الأخيرة تحت بركان النار، يمكن أن تسمع جوقات أخرى غافلة تعلن عن الوقتوتعزف الموسيقى وتقطع عشب الحديقة عن طريق جزازةتعمل بالتحكم عن بعد أو تضع مظلة محمومة فيالخارج في فتح وإغلاق الباب الأمامي آلاف الأشياء تحدث، كما يحدث في متجر لبيع الساعات حيثتضرب كل ساعةتكاتها بجنون قبل أو بعد رفيقتها في مشهد من الارتباك المهووس مع بعضها تغني وتصرخ ويندفع عدد قليل من الفئران الباقية بشجاعة لتحمل الرماد المروع بعيدا. ,وهناكصوت واحد يتجاهل بسمو الحالة، ويقرأ الشعر بصوت عال في كل المكتبالغاضب حتى أحرقت بكرة الفيلم الذي يدوروحتى ذوت جميع الأسلاك وتصدعت الدارات.
اندلعت النار في المنزل وتركته يتحطم ينفخ دوائر من الشرروالدخان.
في المطبخ، وقبل لحظة من هطول أمطار النار والأخشاب يمكن أن ننظر إلى الموقد يصنع الإفطار بحالة نفسية رديئة . وعشر بيضاتو ستة أرغفة من الخبز المحمص. عشرون دزينة من شرائح لحم الخنزير المقدد تأكلها النار. بدأ الموقد العمل مرة أخرى بشكل مجنون ويصدر صوت هسيس .
التصادم. التكية تتحطم وتسقط في المطبخ والصالون. ثم يسقط الصالون في القبو والقبو في القبو الفرعي. يحدث تجمد وسكون عميقين الكرسي الهزاز و أشرطة الفيلمو والداراتوالأسرة والجميع مثل هياكل عظمية ألقيت في كومة وركام فوضوي عميقا في الأسفل .
الدخان والصمت. هناك كمية كبيرة من الدخان.
طلع الفجر . كان باهتامن الشرق. وقف جدار واحد لوحده بين الأطلال. قال صوت آخر منداخل الجدار وكررمرارا وتكرارا ، حتى عندما ارتفعت الشمس للتألق فوقالركام والحطام والبخار:
“اليوم هو 5 آب 2026، اليوم هو 5 آب2026، اليوم هو …”
العنوان الأصلي والمصدر :
There will come soft rains by Ray Bradbury (born 1920) first published 1950.