آفاق حرة
فجأة سافرت .. استعجلت السفر .. كأنني أساق إلى قدري ..
لم أكن أعلم ببرنامج سفري ولا استجمعت كل حاجياتي .. التقينا ، ورغم الاختلاف والتنافر البين في أواصر صداقتنا تواددنا .. قدمت أوراق اعتمادي .. شاب وسيم موظف في مقتبل العمر يرجو قربك وودك وحبك .. وأنت .. قبلت أنا ، وانسحبت هي .. كان لانسحابها وقع مغاير علي .. لم يثرني أو أحسسته حبا كبيرا .. ولم يكن لشوقها طعم مر أو مز أحيانا .. هرولت لكي لا يفوتني القطار ظنا مني أنني غنمت .. ركضت .. وصلت إلى محطة سفري فركبت القطار .. لقد كان القطار الخطأ .. لم أع بفراغ المحطة أو بزيف السكة ولا بسرعة القطار .. ولا حتى بألوان المسافرين المتراكمين في أحشائه .. بعد أن تحرك ورجني رجا استسلمت وانسقت لوجهته .. يجري ، يسير ، يتمايل ، يصفر ، يدخن كثيرا .. ويرسو طويلا أحيانا لا يبالي بما يحمل . ثم ينطلق بعدها كالمجنون يطوي المسافات والروابي والمروج والجبال .. ينحشر في بطونها كما السهم ، ويخرج سالما إلا من ذكرياتي وهواني واستسلامي .
أنظر إلى الأشياء من حولي خلف زجاج نوافذي المنفتحة على سرعة القطار .. كل ما أراه مبهم مضبب يتحرك يتلاشى ولا ألتقط إشاراتي .. وحده الحصان الحديدي من يصول ويجول في الربى .. استشعرت خطأي غلطتي انحرافي وانحيازي عن سكتي . أصوات تناديني في غياهب ليلي وأعماق ذكرياتي .. بصوت واحد جهوري قاس .. إرحل إرحل .. لكن الضعف والجبن والوهن طوقوني وأسلكوني في سلسلة ذرعها مٱت الحصص من الجلد والتنكيل . فغابت أوجه الشجاعة وحلت في سطورها كل معاني الهزيمة والسذاجة .. فكانت لها الصولة والسلطان .. استبدت بكياني ورسمت على أعيني غشاوة وألقت في أذناي وقرا .. عزمت على النزول والانفلات من أحشاء القطار في أول محطة .. أزعجتني صفاراته الصاخبة وأزيز أصوات احتكاك عجلاته بالقضبان الصلبة .. تجمدت في مكاني وجلا ، ولذت إلى ركن قصي أرقب حركة المسافرين بعيون حائرة وأستطلع تموجاتهم في محطات الرسو والصعود .. والهدوء يغلفني .. حتى انتهى بنا السفر إلى آخر محطة … حينها أدركت أن عودتي ضاعت على طول السفر ، وأضحت مستعصية ومستحيلة .. تبدلت أحوالي وتغير زماني ومكاني ، ولفظت كل عربات القطار أكوام المسافرين .. بدا لي كل ما وقعت عليه عيناي ضبابيا يغشاه الغموض .. بحثت عن حاجياتي .. عن خريطة طريقي وكل أشواقي وما حملت من أشواك ورودي ونسائم بني ومرارة قهوتي .. فاكتشفت أنني ضيعتها في أول محطة عبرنا منها إلى الفراغ إلى اللاشيء ..
توهمت النزول وملامسة الأرض الصلبة وأنا أنظر إلى أشلاء القطار واندثار صفارته المزعجة ودخانه القاتم .. خطوت خطوات جامدة لألج زمن الضياع والتيهان .. لم أجد ذاك الحضن الوهمي ولا أنفاس خيالي .. ضاع حبي وارتطم على جلمود صخر الواقع العنيد .. كان علي أن أواجه أن أسبح ضد تياري لأبلغ شط نجاتي .. أمامي شوط رحلة أخرى ، أدواتها خفية وخريطتها منزاحة الحروف والكلمات والخطوط والطرقات .. عمني الظلام وأسدل خيوطه المتشابكة على سفينتي وأسر مجدافي ورمى ببوصلتي في أعماق بحاري .. كيف الخلاص مني والعودة إلي !
تحاملت على بعضي وأنا أكنس كل ذكرياتي من طريقي ، وألملم أطرافي المتناثرة على مدى أيامي .. فتحت حقيبتي وأنا أرتق فروجها علني أحيي عظامي وأسكب الهواء في رئتي لأتنفس الصعداء .. وأواجه عواصف أنوائي .. صار السفر موجعا والأوزار ثقيلة والركب بعيدا .. قاومت وقاومت .. حتى تكسر مجدافي وانحرف مركبي وانزاح عن مرساه ..
استفقت على خيوط الأمل وابتسامة شروق خجول أدمعت عيني وربتت على كتفي .. فارتفعت يداي إليها تنشد نسيم الدجى ورذاذ الحياة المنعش .. ودفء أشعة شمس بائسة ..
أخذت بيدي وهي تنظر في عيناي مبتسمة واضحة المحيى عازمة على سحبي من براثن ذكرياتي وألمي .. فسلكتني رعشة أبدية وهي تلمسني .. لمسات غيرتني وأجرت الدم في عروقي وأوداجي من جديد ، حتى عدت أنا بعدما تجمعت كل مكعبات متاهتي وتكونت ملامح كياني .. قادتني إلى رتاج الأمل ، تقودني عيناها الٱسرتين .. لندخله معا على نغمات المستقبل ورشفات أريج الحب ، وغد أفضل ، وطعم الحياة …