“يولد الإنسان حرًا وهو مقيد في كل مكان. إن أولئك الذين يعتقدون أنفسهم سادة الآخرين هم في الحقيقة عبيد أكبر منهم”. جان جاك روسو…
ولدت في زمنٍ الناس فيه ينقسمون إلى عبيد وسادة، ولسوء حظي كنت أحد أفراد الحشد البائس، حشد العرايا، لا أعلم لِمَ أطلقوا علينا هذا الاسم رغم أننا لسنا عرايا – بالمعنى الحرفي-صحيح أننا نقوم بتدوير الملابس فيما بين أفراد الأسرة لكننا لسنا عرايا على الإطلاق.
وعلمت فيما بعد لِمَ أسمونا حشدًا، وسأخبركم عما قليل بذلك، وفوق الحشد توجد طبقة الأثرياء ثم طبقة السادة، وهذه الطبقة الأخيرة يكون منها (السيد الأعلى) الآمر الناهي تجسيد الإله على الأرض، فكلمة السيد الأعلى تعطي معنى أشمل وأعمق من ذلك اللقب الذي كان سائدًا في العصور القديمة، فهو السيد لأنه يسود والأعلى لأنه يعلو الجميع بما في ذلك طبقة السادة نفسها، وطبقة السادة تسود طبقة الأثرياء التي بدورها تسود الحشد، أما الحشد فلا يسود أحدًا ولكن يسوده الجميع.
وعلى أطراف المنطقة التي يقطنها الحشد توجد حظائر المواشي والبهائم والطيور وهي محاطة بسياج وعليها حراسة مشددة، فهم يخافون تمرد الحيوانات وهروبها، أما الحشد فلا…..، فقد أمنوا جانبه منذ عقود عديدة.
*
استيقظنا على صوت النفير في صباح يوم العطلة الأسبوعية، كي نحتشد ونذهب إلى الساحة العامة لنستمع إلى خطاب السيد الأعلى كالمعتاد، تأففت من الاستيقاظ مبكرًا يوم العطلة، فلم أتمالك نفسي:
– هؤلاء السادة لا يعطوننا وقتًا كي نلتقط الأنفاس!
عنفني أبي صائحًا كمن يخطب:
– إياك أن تقول ذلك ثانية، فخطاب السيد الأعلى ضروري لنا حتى لايفتر حماسنا.
فتح أبي باب العشة التي نسكنها، ولا أدري ما ضرورة الباب فالمارة من خلال خصاصها يستطيعون أن يروا ما يحدث بالداخل، جاءت (الباصات)، فحشرنا بداخلها والتصقت الأجساد، كدت أختنق من الرائحة، ولا أدري لِمَ كل هذا، فخطاب السيد لا يتغير أبدًا، كله عن الطاعة، ولا شيء سوى الطاعة، وكيف أن الخروج عليه معصية، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الحديث عن الزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، ولا أدري كيف ينسجم حديثه عن الزهد وهو محاط بكل وسائل التنعم والترف، بل كيف يجتمع الحديث عن الزهد مع ذلك الكرش الذي يمتد أمامه مترين.
وصلنا إلى الساحة العامة، افترشنا الأرض أمام الشاشة العملاقة المعتمة، دقائق وأضيئت الشاشة بصورته، بدأ خطابه، فشعرت بالملل، وأخذتني غفوة…
رأيت كتابًا متروكًا وحيدًا في ركن رف علوي، يغطيه تراب كثيف، وأنا أقفز محاولاً التقاطه، وما إن وصلت إليه يداي …
انتبهت من غفوتي على صوت تصفيق الحشد، فقفزت مثلهم أصفق بحماس وسعادة أيضًا، سعادة حقيقية فذلك يعني أن خطابه الممل قد انتهى، وكانت المستشعرات الحرارية المزودة بكاميرات تلتقط أكثر الأفراد حرارة في التصفيق، وكان يكافأ بأن يعطوه وجبة إضافية، فاليد تكتسب قيمتها من التصفيق للسيد الأعلى كما علمونا.
صورة الكتاب الذي رأيته في الحلم لم تفارق مخيلتي، فتذكرت مرة كنا عائدين بعد خطاب السيد، فكان أن صاح رجل عجوز:
– إن ما قاله السيد عن الطاعة والزهد هو إخراج لتعاليم الدين عن سياقها، وما ورد في الكتاب..
هنا قاطعه أحد أفراد الحشد فزعًا كمن لسع:
– لا تذكر ذلك على الملأ، ولا تجدف في الدين، وإلا سيكون مصيرك مثل مصير جماعة المجدفين.
خاف العجوز والتزم الصمت.
كان الرجل الذي قاطع العجوز يرتدي ملابس أنظف قليلاً من التي نرتديها كما علمت لاحقًا أنه يسكن بيتًا مبنيًّا بالطوب وليس بالبوص مثل عششنا، صحيح أنه ليس مسقوفًا مثل بيوت الأثرياء، فهو معروش بالبوص، لكنه أفضل من العشش التي نقطنها على أية حال.
اختفى العجوز للأبد بعد تلك الواقعة، ولاندري أين، فقد اعتدنا أن يختفي كل من ينتقد السيد، فكيف يُنتقد السيد وهو مصدر النعم وواهب الطعام الذي نأكله، فمن ينتقده يموت جوعًا أو يتضاءل فلا يراه الناس، وفي كلتا الحالتين يختفي إلى الأبد.
يلي خطاب السيد الأعلى وقت الترفيه، فيقومون بعرض فيلم اختاروه لنا بعناية تمامًا كما يختارون لنا الكتب التي نقرؤها، فالحشد قاصر العقل لا يستطيع أن يختار ما يناسبه، وكانوا يكتمون صوت الممثلين الحقيقيين، ويقوم بعض الأفراد بالتعليق على الأحداث كبديل عن الحوار الحقيقي، ولا ندري من هم، بعضهم قال: إنهم شباب من طبقة الأثرياء.
وكان الفيلم هذه المرة عن شخص يدعى “فورست جامب”، شخص لا يعترض ولا يدرك حتى للاعتراض معنى، يبدو متخلفًا أو معتوهًا، ريشة تحركها الرياح، وكانت كل الأفلام التي تعرض علينا تدور في هذا الإطار، الطاعة ولا شيء سوى الطاعة.
ينتهي اليوم، نعود منهكين بعد يوم طويل، ننام سويعات قليلة لنستيقظ على صوت النفير في الصباح الباكر، ولكنه هذه المرة نداء العمل، وتلك كانت معيشتنا، نسمع النفير فنحتشد، يأمروننا فنحتشد، يحشدوننا فنحتشد، لذلك أسمونا حشدًا.
كان رجال الحشد الذين لم ينالوا أي قدرٍ من التعليم يساقون إلى العمل البدني والحرفي في حي الأثرياء، والأكثر قوة ومهارة يساق إلى حي السادة، وكانوا موزعين بين الجبال والحقول، والضياع، والمصانع والورش إلخ
يقفون في طابور منتظم، ويدور الحراس عليهم ليضعوا الغمامة على أعينهم، ثم يحشرون في الباصات التي لا تتسع لهم أبدًا، فتتحول إلى معابد (كاماسوترا) متحركة، وفي أماكن العمل ينزعون عنهم الغمامات، فلا يروا إلا العمل ووجبات الطعام المصفوفة بعناية عند نهاية الممر المؤدي إلى الخروج في نهاية اليوم.
أما أصحاب الحرف الذين يدخلون البيوت والقصور، فهؤلا تظل الغمامة على أعينهم ولا ترفع إلا في غرفة يغلقها الحارس بإحكام ويقف خارجها، وحين ينتهي –الحرفي- من عمله ينقر على الباب، فيدخل الحارس ويعيد الغمامة على عينيه ويقتاده إلى الخارج.
أما نساء الحشد، فيعملن في حظائر البهائم والدواجن، وبعد أن يُنهين عملهن ويطعمن البهائم، يعدن لإطعام رجال الحشد العائدين منهكين بعد يوم طويل.
والفتيات حسب جمالهن: الفتاة القبيحة، للتزاوج والتناسل من رجال الحشد، والحقيقة رجال الحشد كانوا على قدر عال من الفحولة، فبيرق الحشدي هو الجسر الوحيد الذي يعبر به من عالم الذل والهوان وانحناء الرؤوس إلى عالم من السيادة والرجولة وفرض الإرادة؛ لذلك تضاعف عدد الحشد بسرعة مذهلة.
والحشدية التي تمتلك قدرًا من الجمال، تساق إلى الخدمة في قصور الأثرياء، ومنهن من تعود ببطن منتفخة، فتموت في التالي، ومنهن من لا تعود أبدًا.
والطبقة الثالثة هي طبقة فائقات الجمال، وفتيات تلك الطبقة يسقن إلى أحضان السادة، وأهلها بعد ذلك يمتلكون بيتا مبنيًّا بالطوب، يفاخرون به سائر الحشد، كما يُعفون من العمل ويصل إليهم يوميًّا ما يسد جوعهم.
أما أولاد الحشد، فمَن لا يفلح في الدراسة يمتهن صنعة والده سواء كانت بدنية، أومهنية، أو حرفية، أو….، أو ….. ومن ينهي المرحلة الابتدائية، ويجيد القراءة والكتابة، يساق إلى حراسة أحد بيوت الأثرياء، أما من أظهر نبوغًا مثلي -ولا فخر- ينتقل إلى المرحلة الثانية من التعليم، وتلك آخر مرحلة متاحة في مدارس الحشد وبعدها نذهب لحراسة بيوت السادة.
أنهيتها بتفوق، فساقوني لأعمل حارسًا لبيوت أحد السادة الذي كان مسنًا، يُدعى السيد أبراهام، يعيش وحيدًا لا ولد له، كان طيب القلب، كنت أقوم الليل في كشك الحراسة، ونهارًا أنام في حجرة بجوار حظيرة كانت مخصصة لكلب السيد الذي علمت أنه مات منذ فترة قريبة.
كان مجيء الخادمة صباحًا إيذانًا بانتهاء عملي، وفي طريقي إلى الحجرة كنت أشاهد السيد يخرج إلى حديقة القصر، ومعه كتاب يقرؤه، وكان أحيانًا ينسى الكتاب على الطاولة ويدخل القصر، فدفعني الفضول ذات مرة لتصفح إحدى تلك الكتب على عجلٍ، فباغتني –السيد- وأنا أقوم بذلك، فأعجبته جرأتي، فبدأ يعطيني كل يوم كتابًا حتى لا أنام أثناء نوبة حراستي، فلما رأى فصاحتي وفهمي السابق لسني، توسط لي كي ألتحق بالمرحلة التأهيلية للتوظيف العالي، وهذه كانت ثلاث سنوات.
لكن المشكلة التي واجهتني، أنني كي ألتحق بتلك المرحلة كان لزامًا علي أن أمتلك اسمًا، فنحن في الحشد لم يكن لدينا أسماء، كنا أرقامًا، حتى تلك الأرقام لم نكن لنحفظها لأنها طويلة جدًّأ، الحراس فقط يعرفونها، كما يعرفون بصمات أيدينا ووجوهنا، وكنا في الحشد لا نعرف سوى الأب والأم، حتى عملية التزاوج في المجتمع الحشدي، تتم على أيدي رجال المختبر، فكانوا يأتون بصفة دورية ليأخذوا عينات من فتيات الحشد وفتيانها، وبعد تحليل تلك العينات يقومون بتزويج الفتيان والفتيات حسب التوافق الجيني، لإنتاج سلالة حشدية قوية قادرة على العمل.
أما أبناء الأثرياء والسادهم، على عكس ذلك تمامًا، فهم يولدون ولديهم أسماء، ولهم الحرية الكاملة في اختيار شريك الحياة، كما يختارون نوعية التعليم ويصلون إلى أعلى مراحله.
وهنا تدخل السيد أبراهام، وأسماني “مصطفى سعيد”، ولم أكن أدري حينها لِمَ اختار لي ذلك الاسم، ورغم حصولى على الاسم، كان أولاد الأثرياء والسادة في المدرسة يتحاشون النظر إلي أو الحديث معي كأني كائن من عالم آخر أو شبح أو عفريت، لكنني لم أكترث بذلك.
أنهيت المرحلة بتفوق مذهل أبهج السيد أبراهام وطار فرحًا بي وبنبوغي، وبذل جهودًا مضنية كي ألتحق بكلية السفراء والساسة، ويبدوا أنه كما يقولون: (رجل واصل)، فالتحقت بالكلية، لكن سوء المعاملة من الأساتذة والزملاء ازداد بشكل ملحوظ، فقد خصصوا لي مكانًا في آخر القاعة أجلس فيه وحيدًا، فكنت بالكاد أسمع الأساتذة وهم يلقون المحاضرات.
*
بمرور الأيام ازداد نهمي للقراءة حتى إن السيد أبراهام تعب من كثرة الذهاب والمجيء، فأخذني من يدي ذات ليلة وأدخلني مكتبته، وأشار بيده إلى رفوف الكتب المصفوفة:
– كل ما في هذه المكتبة بين يديك
– أشكرك سيدي، هذا كرم بالغ
– لكن إياك والكتاب المتروك وحيدًا في أعلى الرف الأيمن، إياك أن تقترب منه
– لماذا؟
– هاااا…، لا تسأل، أنا أثق بك، فلا تجعلني أندم، أتعدني أنك لن تتبع فضولك وتمتد إليه يدك.
بعد تردد:
– أعدك.
فبدأت أقرأ ما أريده، لا ما يختاره السيد، لأول مرة في حياتي أختار، فالتهمت أمهات الكتب في الفلسفة والاقتصاد والسياسة….
كنت أنام سويعات قليلة قبل أن أذهب إلى الكلية، ومرت الأيام بين عمل ودراسة، ولم يعكر الصفو إلا تلك الواقعة التي حدثت في السنة النهائية، فقد سأل الأستاذ –في أثناء المحاضرة- عن المقصود بـ “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، لكن أحدًا من أبناء السادة لم يجب، ومن قام ليجيب، قام للسخرية فقط، فطالما سألت نفسي لِمَ يستهزئون بذلك الأستاذ كثيرًا، رفعت يدي، أذن لي الأستاذ، فقمت وأجبت بحماس:
المقصود بنهاية التاريخ…..
قاطعني الأستاذ بغضب:
– من أذن لك أن تتكلم؟
– سيادتك
– أنا لم أشر إليك، ولكني أشرت إلى السيد الجالس أمامك
– أعتذر
– اعتذارك غير مقبول، عقابك أن تمضي المتبقي من العام واقفًا.
– لكن لِمَ
– لا تناقشني، قم واذهب إلى الباب الخلفي للقاعة ولتقف هناك دون حركة، ولا أريد أن أسمعك لك صوتًا.
ثم أردف:
هيا يا سادة لن ندع وقاحة كائن من حشد العرايا تفسد علينا درسنا، فلنكمل المحاضرة.
بعد انتهاء اليوم الدراسي، عدت إلى كشك حراستي حزينًا، لم آكل، جاءني السيد أبراهام متعجبًا:
– لِمَ لم تأت إلى المكتبة لتأخذ كتابًا كعادتك.
قصصت له ما حدث، فواساني وطيب خاطري، وسألني عن اسم ذلك الأستاذ، فأخبرته أنهم يطلقون عليه ” أوليفر تويست”، فضحك السيد:
عرفته، وأعرف قصته، فذلك الأستاذ الذي قلل منك اليوم ليس سيدًا كامل السيادة، فأمه من بنات السادة صحيح، لكنها وقعت في حب أحد الحراس القادمين من حشد العرايا، وفي غفلة من أهلها واقعته، فحملت منه، ولما علم أهلها قتلوا ذلك الحارس، وبعد توسل الابنة، تركوا لها وليدها ولم يقتلوه، ومن حينها وهم يلقبونه بذلك الاسم.
كلمات السيد أبراهام سرَّت عني، وبعد أن اطمأن أني أكلت ذهب لينام، فذهبت إلى المكتبة كالعادة، ولا أدري لِمَ أثار فضولي ذلك الكتاب المتروك وحيدًا في أعلى الرف الأيمن، فماذا سوف يحدث لو قرأته، لكن لا .. لا، لقد وعدته ولن أخون ثقته أبدًا، لكن بإمكاني أن ألقي عليه نظرة خاطفة، كيف سيعلم السيد على أية حال، سحبت الكرسي وقفتُ عليه واقتربت يداي منه، لكنني شعرت بحركة في البهو، فخفت وأعدت الكرسي مكانه، وخرجت مسرعًا، لم تكن سوى هرة، فحمدت الله وأكملت طريقي إلى الكشك، ومنذ تلك الليلة لم أكرر المحاولة ثانية.
*
وقفت أمام لوحة إعلان النتيجة مذهولاً، لقد فعلتها، نجحت بتفوق، تفوقت على أبناء السادة، لكنني كتمت فرحتي حتى لا أغضبهم، أو أثير غيرتهم، طرت بمعنى الكلمة إلى السيد أبراهام ، لم أشعر كيف اجتزت كل تلك المسافة على قدمي في وقت قصير، كان جالسًا في حديقة القصر، علم من الفرحة المرتسمة على وجهي أنني نجحت، احتضني بشدة:
– تمنَّى علي
بعد تفكير لم يطل:
– ذلك الكتاب المتروك وحيدًا في أعلى الرف الأيمن….
فتغير لون وجهه فجأة، وخاطبني بلهجة سيد إلى فرد من الحشد، كأنه تذكر الآن فقط من أكون:
– إياك أن تكون قد قرأته
– لا أنا على وعدي معك
بعد أن تنفس الصعداء:
– فلتنس أمر ذلك الكتاب؟
– لكنني أريده، ما المشكلة في ذلك؟
– اسمع إياك أن تطلب ذلك ثانية، ومن اليوم سأغلق باب القصر دونك، وستقرأ الكتب التي أختارها لك، أنتم أفراد الحشد … ملاعين.
ما قاله السيد أضاع بهجة النجاح، لكنني تجاوزت ذلك، وبدأت التفكير في مستقبلي، فأنا الآن خريج كلية السفراء والساسة وتنتظرني وظيفة مرموقة، ولم يطل الأمر طويلاً، فقد علمت أنهم يحتاجون سفراء لدى الدول الأخرى، فهرولت إلى السيد وأخبرته، لكنه أبدى فتورًا لم أعتدته منه، فسألته:
– أمازلت غاضبًا من طلبي إليك ذلك اليوم.
– لا، ليس هذا.
– ماذا إذن؟
– أنت لا تفهم
– أفهم ماذا؟
– اسمع يا مصطفى، أنت شاب نابه، ويعلم الله أنك في منزلة …..
وهنا نظر إلى قفص كلبه الخالي، ثم أردف:
– ولكن …
– لكن ماذا؟
– لن تستطيع المضي أبعد من ذلك، فلتكبح جماح أحلامك، وكفاك ما وصلت إليه
– أنت إذن لا تزال غاضبًا مني.
– لا، ولكني لن أجديك نفعًا بعد الآن، فلتنس أمر تلك الوظيفة
– مستحيل، لن أضيع جهد كل تلك السنين هباءً، قل إنك لا تريد التوسط لي.
– أنت حر، لكن تذكر أنني قد حذرتك.
لم أستمع لما يقول، وذهبت إلى مكان التقدم للوظيفة، وملأت الاستمارة دون علمه، وحددوا لي موعدًا للاختبار، واجتزت اختبارًا تلو آخر، فأنا لم أعرف الفشل يومًا، أعلم أنني من الحشد، لكن تفوقي سيجعل مني استثناءً، فهم يحتاجون لرجل ذكي مثقف مجتهد بين ثلة الأغبياء والفاشلين من أبناء السادة، وإلا لما استدعوني لأداء اختبارات الوظيفة، فأنا خير من يمثل بلدنا لدى الغير، ودرجاتي في الاختبارات جميعها خير دليل على ذلك، حسنٌ يا سيد أبراهام:
أنا لا أريد وساطتك، بك أو بدونك سأكون، وظلت الأحلام تراودني حتى موعد إعلان النتيجة النهائية.
*
في طريقي إلى لوحة الإعلان قابلت الكثيرين من أبناء السادة، الذين نظروا إلي بسخربة، وتبادلوا الهمس والضحك، سمعت أحدهم يقول لصاحبه:
– هذا سفير حشد العرايا!
لم ألق لهم بالأً، فمنذ متى وهم لا يتنمرون علي! واصلت السير، وقفت أمام لوحة الإعلانات طويلاً غير مصدق، دارت بي الدنيا، توقف الوقت عن الحركة، يبدوأ أنني لم أعد أرى جيدًا، أو أن الصدمة أطارت صوابي، وتلك العبارة التي كتبت أمام اسمي ظلت يتردد صداها، فكنت أقرؤها بصوتي مرة، ويرددها السيد أبراهام بغيظ، ويقولها أبي بصوت متحشرج، وتبكي أمي وتنتحب، ويغنيها السيد أوليفر تويست بصوت عال شامت: غير لائق اجتماعيًّا.
ويرددها كورال أبناء السادة وراءه: غير لائق اجتماعيًّا.
الطريق إلى باب الخروج أصبح أميالًا أقطعها بأنفاس مكدودة، وخطوات عجوز متهالك، رأيتني عائدًا إلى حشد العرايا، والناس يتبادلون نظرات الشفقة والسخرية وأنا أسير بينهم كالفتاة التي عادت من حي الأثرياء منتفخة البطن، أي عار، والحشد يصيح بسخرية: غير لائق اجتماعيًّا، أخذ صياحهم يزداد ويزداد حتى صار ضجيجًا يخترق أذني ويدمر خلايا مخي: غير لائق اجتماعيًّا، ……….، ……….
أعرف أنني من الحشد، تبًا لكم جميعًا!
هذا ليس عدلا.
ردد السيد أبراهام بإصرار: لقد حذرتك، وأنت حر … انتحر، وأخذ يرددها حتى التف حوله الجميع، حشد وسادة وأثرياء: أنت حر … انتحر، انتحر، انتحر….
كفى، سأغادر عالمكم، لكنني لن أرحل في صمت، سأجعل من رحيلي حدثًا تتناقله الأجيال القادمة، سيصير خبرًا يتداول لعقود، وسيأتي جيل من حشد العرايا سيوقف الزحف المقدس لأبنائكم، فلن تكونوا أبد الدهر سادة، ونحن لن نظل عبيدًا.
وجدتني أمام قصر السيد الذي هب واقفًا عندما رأني، وصاح:
– مصطفى، أين كنت؟
لم أعره انتباهًا، سرت إلى المكتبة مباشرة، سحبت الكرسي وقفت عليه وجهت يدي إلى الكتاب المتروك وحيدًا أعلى الرف الأيمن، تناولته يداي دون تردد، خرجت مسرعًا وأنا أحتضنه، حاول السيد منعي، لكنه لم يستطع اللحاق بي، فأخذ يصيح:
– عد يا مصطفى، أنت مجنون، حشد ملاعين.
عدوت، أطلقتُ ساقي للريح حتى وصلت إلى الجسر الذي يعلو النهر، جلست على المقعد الحجري وحدي، أتصفحه، كان الكتاب مجلدًا ومزخرفًا بطريقة لم أعهدها في سائر الكتب….
*
هذه قصتي رويتها لكم بكل أمانة ولم أغير فيها شيئًا، والآن أترك هذه الدنيا غير آسفٍ عليها، فأنا لن أعود رقمًأ في حشد، وسأترك قصتي تحت ذلك الكتاب المبارك الذي لا شك في أنه سيهدم الوهم والأباطيل التي روج لها السادة والأثرياء طويلاً، وسيكون سببًا في تغيير المستقبل يومًا ما.
بمحض إرادتي أنهي تلك الحياة التعسة، لأفسح الطريق للجيل القادم، فمن كان جزءًا من المشكلة لا يكون أبدًا جزءًا من الحل، وأنا قد شاركتُ في ذلك.
فيا مَن تجد قصتي والكتاب، انشرهما بين أفراد الحشد، كي يفيقوا من الوهم، ويشعروا بآدميتهم ولو مرة واحدة.
“آمنوا فإن الحرية تأتي من الإيمان، وأنتم لا ترونهم كبارًا إلا لأنكم ساجدون” آمنوا بحقكم في الحياة وإلا …. فإني أنتظر الكثيرين منكم في قاع النهر.
التوقيع: سفير حشد العرايا