حضرت حفل إفطار في مركز علمي مرموق، وأنا أرتدي غيمة من فتات الخبز. كان ينبغي أولاً المرور على المنصة لمُصافحة راعي الحفل، وهو رجل ممتلئ بالسلام العنيف، ثم الجلوس إلى أية طاولة. نفذت المطلوب بدقة، وأضفت ابتسامة من عندي، ثم اخترت زاوية قصية، وبقيت واقفاً لأنني لم أجد كرسياً. شعرت أن الجميع يزدردون الطعام ويتلمظون، فاستعرت من جاري حاجبيه، واستخدمتهما عودين للأكل. في طبقي القليل جداً من السلطة والفاصوليا الخضراء المسلوقة. لم يعجبني مذاق الأكل.. تفه لا طعم له. نظرت حولي، فوجدت الضيوف يأكلون بأصابعهم العشر، وأطباقهم مُترعة بلحم أخضر دسم، خمنت أنه لمخلوقات فضائية مخبولة، أتت من كوكب نبتون بحثاً عن صداقة البشر. أحسست بالغيظ والظلم، لأنني أنا أيضاً كنت أرغب في تذوق لحم المخلوقات الفضائية الفاخر. ابتلعت غيظي وخرست، ورمقت راعي الحفل بنظرات ازدراء متهورة.
فكرت أنني لو بقيت في شارع المطاعم لحصلتُ على وجبة أفضل. كنت سأتسكع بين طاولات المقاهي والمطاعم إلى أن تُيسر الملائكة العثور على أحد معارفي وهو يُفطر، فأقترب منه وأسلم عليه، فيدعوني لمشاركته فطوره، فأفعل مُدعياً أنني سآكل لقمة واحدة على سبيل المجاملة، وأروح ألهيه بسؤاله عن أحواله وعمله وأهله، أو أنقل إليه غيبة تمسه، فأشغله عن الأكل، ويتسنى لي الإجهاز على نصف ما في صحنه أو أكثر، بينما هو متحمس لمناولتي آراءه السياسية أو تقييماته للأشخاص الذين مسوه في شخصه. ثم أقوم زاعماً أن عندي موعداً هاماً أريد اللحاق به، فأتركه يُنهي السؤر ويدفع الحساب، وهو يدعو الله في سره ألا أصادفه مرة أخرى ولا حتى في الجنة! لكنني لا أمنح الأصدقاء شرف جلوسي إلى موائدهم إلا في حالة الضرورة. فأنا أبدأ صباحي باستعارة الجرائد من كشك قريب، وأروح أبحث عن الأخبار التي تشير إلى مواعيد عقد المؤتمرات والصباحيات، والتي أُخمن أن على هامشها بوفيه مجاني، فأذهب إليها مُتظاهراً بأنني مدعو، فإن أصرّوا على بطاقة الدعوة، أنتظر وصول شخصية مهيبة وأحشر نفسي معها، فلا يعود أحد يجرؤ على طردي.
بعد قليل دخلت إلى القاعة شابة سمراء فاتنة، يتأرج منها عبير الكاذي، وصعدت إلى المنصة، وقرأت كلمة تحدثت فيها عن والدها السياسي وصاحب التاريخ النضالي الذي أُلقي القبض عليه عقب تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام، ومن ثم اختفى تماماً.*
ذرفت الدموع وهي تذكر أن أباها ليس له علاقة بالمتآمرين، وأنه ليلة الانقلاب كان ساهراً معهم، يراجع الدروس لأطفاله، ولا علم له بشيء. بكى جميع من في القاعة، وحتى أنا وجدت نفسي أنتحب وأشد شعر رأسي، وكأن المفقود هو أبي، أبي النموذجي الذي صنعته في أحلام يقظتي، وليس ذاك المتعفن في البيت.
وبعد انتهائها من إلقاء كلمتها، قام راعي الحفل بتلاوة بيان شديد الفحولة، يُطالب السلطات بإطلاق سراح ذاك المعتقل السياسي إن كان حياً، أو تسليم جثته لذويه إن كان ميتاً. صفقنا مُطولاً حتى تساقط طلاء الجدران، ووقعنا على البيان بالأظافر والأسنان. ولاحظت كما لاحظ غيري من الضيوف أن راعي الحفل المبجل قد فتح زمام البنطلون، وأطلق سراح (المناضل الكبير) من تحت الطاولة، وهو يهتف بحماسة منقطعة النظير! الوحيدة التي لم تعلم بأن (المناضل الكبير) يُشاركنا الهتاف هي الشابة الجميلة، صاحبة القضية التي كانت تجلس في المنصة بجوار راعي الحفل. وأتى راعي الحفل بحركة من تحت الطاولة.. فضحكتُ وانتقلت عدوى الضحك إلى القاعة بأسرها، باستثنائها هي التي لم تعرف سبب ضحكنا.
خرجت إلى الشارع وأنا أمضغ لبان النميمة، وفكرت في نفسي أن الواجب الأخلاقي يُحتم عليّ حضور كل حفلات التضامن الإنسانية، وبالأخص إذا كانوا سيقدمون لحم سكان كوكب نبتون مشوياً بالفحم أو مطبوخاً بالصلصة والبهارات، وأما إذا كان البوفيه مُقتصراً على الخضار المسلوقة، فإن قدرتي على التضامن مع قضايا الآخرين ستقل كثيراً، وغالباً سأعتذر عن الحضور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يوم 15 أكتوبر 1978 قام التنظيم الناصري في اليمن بمحاولة انقلابية على الرئيس علي عبدالله صالح، ولكن لم يُكتب لها النجاح. وبعدها بثلاثة أسابيع تم إعدام عشرين شخصاً، مدنيين وعسكريين، من كبار قادة التنظيم الناصري المعارض.