آفاق جرة
-قميصي المخطط كان قد اختفى أيضا. لعنته في نفسي: عَلي اللعين، وحينها تنبهت لمرارة فقده.
كان يخبرنا قصة كاذبة. يجلس بيننا ويحاول أن يبدو مهما باختلاق الأكاذيب. أتممت حكايتي دون أن ألتفت إليه: كان الأمير عاديا في البداية، ولكن البرص ظهر منذ أسبوعه الثالث. أمه قالت للسلطان: سيشفى. وكان هو غير مهتم في الحقيقة. عافه وعاف أمه، وبعد بعض الوقت نسيه تماما.
إن الكتب التي تتحدث عن تاريخ الأندلس لا تشير إليه أبدا. كبر الأمير كما الآخرون وظل أبرصا دائما، وكان يختبئ في صندوق. أمه لم تسع لإخراجه. كانت قد سمنت كثيرا. قالت لزوجة السلطان الجديدة: سوف أمسخك عقربا، ولذلك انتشرت الشائعات عنها في القصر. قال الخدم أنها ساحرة، وأن ابنها ليس ابنها في الحقيقة، دمية لحمية، مسخ استحضرته من تحت الأرض…
كانت الأقاويل تتناسل وهي تصمت حين تشاء أو تطلق اللعنات، وبدأ السلطان يهابها. كلما جلست على الشرفة تجمعت الجواري متغامزات، وكانت هي تنظر للبعيد. قالت لنفسها أنها تحولت لفُرجة بقوة الهم والمرارة وحدها، وفكرت بحياتها الضائعة. قال لها طبيب غجري: إنه بسبب اختلاط الدم.
فكرت بأسرتها وسفالات السابقين وأحست بالعار. استعرضت زيجات أجدادها، وأشياء أخرى سيئة، وجعلت تكبر أسرع من الآخرين.
-ومتى حصلت حادثة الصندوق؟
إنه يطرح أسئلة سخيفة ليزعجني. قال لنا في البداية أن شقيقه تعرض لحادث مماثل أيضا. كور فمه الرهيب وصاح: فراغ تام، علي ابتلعه الصندوق.
هذه حيل يلجأ إليها الكثير من الناس، والآن إذا ادعيت أنني أبصق المسامير مثلا، فسيجد لي شبيها آخر من عائلته.
-الأمير كان صامتا. كثر إخوته من زيجات السلطان ولم يزره أحد. كانوا يتجنبونه كوباء، ولذلك فقد تجنبهم أيضا. أمر النجار بأن يبني له صندوقا يليق بمقامه. تفاهم معه بالقليل من الكلمات والكثير من الضحك: لا يطيقونني، قهقهة. أختبئ إذن، قهقهة. صندوق يفي بالغرض، وانكفأ على ظهره من الضحك.
قال النجار لزوجته يومها: لقد ثقب قلبي. كان يستعمل الكلمات على أجمل نحو. ثقب دائري في القلب. وكتبت هي هذا في بيت شعر.
كتبت عن الأمير، وعن لونه الأبيض، وعن القمر في ليلة موحشة، وعن الفراغ الممتد في الروح. كانت تنقش ما تنشده على مفارش حريرية ومناديل. صَعد الشعر ذات مرة إلى قلبها فألقت المناديل في الصندوق، ويومها حمله زوجها إلى القصر.
إن أعين الرفاق تلمع من شدة الفضول. سيظنون الآن أنها قصة عن الخيانات وسيكونون مخطئين. جعل الأمير المفارش بطانة للصندوق، وبدأ يفكر بها.
قرأ الأبيات آلاف المرات، وكاد يدوخ. كان الخط جميلا. أحدها كان يشَبهه بالقمر الأبيض، وكان ذلك القمر لسبب ما حزينا. قال له شقيقه الأصغر: أنا لا أعرفك، فعاد مسرعا إلى صندوقه. قرأ الأبيات ليعزي نفسه، وتبين له أنه يستطيع أن يقول مثلها.
فار الكلام في داخله. كانت تلك حالة غير مسبوقة من الهذيان الشعري، وانبرى صوت الأمير الحاد حتى تجمع الخلق من حوله. شبه القمر الحزين برغيف الخبز وبوجه المرأة التي تخيلها مرات ومرات. تغزل بها حتى دميت حنجرته، وكان يحس أنه تجاوز حدوده كثيرا. لعن صمت طفولته كاملا وألقى اللعنات على القصر ومن فيه، وكان الناس يسمعونه مسحورين. كلما صمت وهلة خافوا أن يتوقف وتبادلوا نظرات الهلع. قالت أمه لنفسها: يا للسلالة! وصرخت كثيرا حتى تفرق الجمع.
كان قد صمت هو أيضا. اقتربت من الصندوق ووبخته كطفل: كنت أنتظر أن يصبح ابني سلطانا…شعر ولعنات، هذه الأشياء لا تجدي. وحين فتحت الصندوق كان قد اختفى.
-ابتلعه الصندوق.
كان يتابعني بعينين متوثبتين، أما الآخرون فقد فقدوا الاهتمام بالقصة. سألته: ماذا عن شقيقك؟
-هو…لا شيء. كان يختبئ من الدائنين، ولم يجده بعدها أحد.