أفاق صبيحة السبت على وقع رنين المنشار الكهربائي ودقات مطرقة جاره المتقاعد. إنفتحت عينايه المتكاسلتين على السقف وبقعة الرطوبة في الزاوية، وعلى الثريا العتيقة ببلوراتها الباهتة من أثر الغبار وروث الذباب. وجّهَ بصره ميمنة فرمق خصاص النافذة المائل وستارها الشفاف المتراقص، ستار مورّد ألِف مُداعبة النسيم المُحتشم في هذه الفترة من الصيف. تأكد من أنّه في غرفة نومه، تلمس فراشه على ميسرته فألفاه شاغرا باردا ليطمئن أنه عاد وحيدا لبيته ليلة أمس، من دون اصطحاب غانية من الدرجة الثالثة آخر الليل. شعَر بارتياح أولي فقام متثاقلا نحو الخطافة حيث يعلق مفاتيحه ومعطفه. فتش جيبه الداخلي، وجد محفظة نقوده وما يزال بها بعض الأوراق النقدية فاطمئن أكثر. غير أن الصّداع الشديد الذي يُثقل رأسه كان يمنعنه من التركيز ليتذكر كيف انتهت سهرة الجمعة ويعلَم هل مرت دون مشاكل، فتواجد مفتاح السيارة في حوزته شيء وتفاصيل ظروف عودته للبيت شيئ آخر. تُرى؟ هل أوصلَه أحدهم، هل استقلّ سيارة أجرة أم رجع سائقا. هل لطفَت به الأقدار مرة أخرى ووصل الحي بسلام ، أيكون قد ركَن سيارته بإحدى الأزقة المجاورة دون أذى؟. أسئلة كثيرة تزاحمت في ذهنه الخامل ولم تجد جوابا.
ألقى قرصيْ باراسيطامول من النوع الفوّار في نصف كوب ماء وأغمض عيناه قليلا ليُغالب دُوار أثرِ الخمرة، لكن صوت الفقاقيع خلال تحلل القرصين زوّد دُواره. قرر أخذ حمّام مُطوّل لعلّه يُحسّن حالته،
فتجرد من لباس نومه الفوّاح برائحة التبغ والعرق وتسلل تحت رشاش الماء الدافئ آخذا ما يكفي من الوقت للإسترخاء.
بعدما أغلق الصنبور، مكث دقائق طويلة مُركّزا على قطرات الماء وهي تنساب بسلاسة من رأسه إلى قدميه، ثم تلفع بمنشفة حول خصره ووقف أمام المرآة. بعدما مسح بكفّه ضباب البخار الكثيف من عليها، تكشّف له وجهٌ متعب باغتته التجاعيد على حين غرة، وعينين محمرتين بجفون منتفخة وهالتين دكنتين. حلق وجهه، شذّب شاربه ونظّف أسنانه بالمعجون المُبيّض مستعملا فرشاته الكهربائية الجديدة لأول مرة. عندما فرغ، قصد المطبخ ليُفرغ الدواء في جوفه، ثم فتح ثلاجته وتفحصها. كانت فارغة إلا من زجاجة نبيذ نصف مملوئة وبقايا وجبة دجاج مُحمّر تمكّنتْ منه الفِطريات وغزَلت فوقها ستارا صوفيا يميل للخضرة. أغلقها برفق وهو يصوّب نظره نحو حوض المطبخ فرَاعه المنظر المُقزّز للأواني المتسخة المتراكمة. هناك أقرّ بهزيمته وفقد الأمل في مواساة معدته بأي شيئ يخفف حُرقتها المزعجة. ترك المطبخ في انكسار ورجع لغرفة نومه من جديد حيث فتح دولابه ومضى يتأمله مليّا قبل وضع ملابس نظيفة والتعطّر بسخاء إستعدادا للمغادرة.
بعدما نزل درج الطوابق الثلاثة بتؤدة، إكتشف في حبور سيارته المكرونة بعناية قبالة العمارة من دون أدنى خدشة. سُر بذلك أيما سرور، فحمد وشكَر خفيّ الألطاف ثم مدّ بصره ليلاحظ أن الزقاق كان شبه خالي، وأن محلبة الحي كانت موصدة، نظر إلى مِعصمه فوجد الساعة تشير للواحدة زوالا. قال لنفسه: لا شك أنه ذهبَ لصلاة الظهر، لا حظّ لي إذا في شطيرة بيض بالجبن وكوب لبن مخلِّصين. على كل حال، سيكون مِنقد شوّاء الحانة على وشك الإستواء، سأُصيب هنالك مزّة وأبلل ريقي بجعتين أو ثلاثة في انتظار التحاق الأصدقاء.