صفيح وكلاب وقمامة/بقلم:علي جاسم ياسين

في مكبّ النفايات، حيث يختلط دخان الحرائق برائحة الطين المالح، عاش عبد الحسين الدسم في مأوى من صنع يده، منخفض السقف، مصنوع من صفيح صدئ متآكل، يكاد ينهار مع كل هبّة ريح. لم يكن له جيران، ولم يكن أحد يطرق بابه، ومع ذلك كان يحافظ على حضوره وسط العزلة بالقرب من أكوام النفايات في الصحراء.
كان رأسه كبيرا، كأنه مستودع لأحلام لم تتحقق، ولحيته الطويلة تتدلى كغابة جافة تهتز في الريح. ملابسه رثة ومهترئة، لكنها لم تكن عبء عليه، بل جزء من صورته، رمز صمته وقسوته، وحصنه ضد نظرات البشر الساخرة.
لم يثق بالناس، وكان يبتسم بسخرية حين يسمع عن الأخلاق والقيم، كأنها أقنعة بلا مضمون. لم يمد يده ليطلب مساعدة من أحد، لا من الدولة، ولا من أي إنسان. لكنه ظل صامدا، رغم كل شيء، غامض في قوته وصموده: لا يعرف أحد من أين يحصل على طعامه أو شرابه، وكأن الأرض نفسها تمنحه ما يحتاجه ليبقى قائما.
وكانت الكلاب الضالة، التي تجاوز عددها العشرين، بمعيته في هذا المنفى. صحتها جيدة، قوية، تتكيف مع صعوبة الحياة في شبه صحراء. ألوانها متنوعة وجميلة: الأبيض، الأبيض المرقط، الأسود، الأسود المرقط ببقع بيضاء، رمادي مخطط، وكلها تتناسل فيما بينها، فلاحقا تظهر الجراء الصغيرة تركض خلف أمهاتها في فوضى.
عبد الحسين كان يبدو وكأنه يرعى قطيع من الماعز. لم يكن مجرد حارس للكلاب، بل جزء من القطيع، يراقبها وينظم وجودها بصمت، متوحد معها في عالمها، حيث تتحرك بحرية بين أكوام النفايات، وتعود إليه لتجد حضوره ملاذا وسكينة. كل حركة منه كانت بمثابة إشارة يعرفها القطيع فتطيعها دون كلمة، فتبدو العلاقة بينه وبين الكلاب قريبة من لغة غير مرئية تفهمها الطبيعة فقط.
في الليل، حين يهدأ العالم، كان عبد الحسين جالس على الأرض السبخة، محاطا بقطيعه من الكلاب، وكل شيء حوله يتوارى في الظلام إلا حضوره. وفي النهار، كان يسحب جسده الثقيل فوق الأرض، كما لو كان يجرّ الجبال وراءه، حاملا صمت عمره سنوات، وعزلة لا يساويها شيء.
يستيقظ عبد الحسين وقطيعه مبكرا. الجراء الصغيرة تخرج من مخابئها، تركض بخفة خلف أمهاتها، تتعثر في الطين لكنها تنهض وتواصل اللعب. عبد الحسين يتابعها عن كثب، يراقب كل خطوة، أذناه لا تفوّت أي نباح أو صوت حفيف في الصفيح.
يبدأ يومه بجمع بقايا الطعام من الحي المقابل، يقطع المسافة بعناية، يحمل ما يمكن أن ينقذه من فضلات صالحة للأكل، ثم يعود إلى القطيع. حين يصل، يبدأ في توزيع الطعام: الجراء تتقدم أولا، تأخذ الطعام من بين أصابعه بحذر، وأمهاتها تقترب لتأخذ حصتها. الكلاب الأكبر حجمًا تتناوب على الحماية والمراقبة، وتنفذ التعليمات الصامتة لعبد الحسين.
اللعب جزء من حياتهم اليومية. الجراء تتسلق فوق ظهر أمهاتها، تتدحرج في الطين، تتعلم كيف تتعاون مع بعضها وتختبر حدودها. عبد الحسين يجلس أحيانا على الأرض، يراقبها ويضحك بصوت منخفض، وكأن هذه اللحظات هي العالم بأسره بالنسبة له.
في منتصف النهار، بعض الكلاب تلتف حوله لتستظل في أماكن صغيرة من الصفيح، وبعضها يظل نشيطا يبحث عن أي متاع صغير بين النفايات. الجراء تستريح أحيانا لفترات قصيرة، وتواصل اللعب دون توقف، وكل حركة منها، وكل صوت، تتسرب الحيوية في المكان.
حين تشتد حرارة الشمس، يتراجع عبد الحسين والقطيع إلى المناطق الأكثر ظل، حيث يجدون بعض الراحة. هو يجلس، يسمع الريح وهي تعصف بالصفيح، يستمع لأصوات الجراء وهي تتنفس بعمق بعد الركض. هذه اللحظات الصامتة هي طقسه اليومي، حيث يجمع بين مراقبة القطيع واستعادة الطاقة.
مع المساء، يعود النشاط تدريجيا. الجراء تتدرب على التقاط الطعام بسرعة أكبر، تتعلم من الأخطاء، وأمهاتها تساعدها بالصبر. عبد الحسين يراقب كل حركة، ويضع يده لتدلل بعضها، يربت على ظهور الكلاب الكبيرة، كأنهم يشاطرونه شعور الحماية.
وفي الليل، يجلس الجميع معا. عبد الحسين في وسط القطيع، الجراء تتجمع حول أمهاتها، الكلاب الكبيرة محيطة بهم، المكان كله هادئ إلا من أصوات الريح والصفيح. إنه الوقت الذي يعكس الوحدة والدفء معا، صمت الصحراء وحركة الحياة الصغيرة في مكب النفايات، وكل شيء يتنفس في توازن غريب لكنه واقعي.
عبد الحسين لم يكن منبوذا بالكامل. كان شاهدا على أنّ الإنسان يمكن أن يُلقى بعيدا عن كل شيء، لكنه يظل موجودا، أكثر قوة، وأكثر وضوح من صعوبة الصحراء التي تحيط به. ومع كلابه الجميلة والقوية، ومع مأواه المصنوع بيده، كان عبد الحسين صورة منسية للقدرة على الصمود، نموذجا لعناد الحياة الذي لا يحتاج إلى أحد ليؤكد وجوده.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!