صمت الكلمات
لبنى القدس
الجزء الثاني
4.
جاء اليوم الموعود، واحتُفل بزفاف إبراهيم وبسام معًا، تعالت الزغاريد، وصدحت الموسيقى والأغاني، وعمّت الأجواء الاحتفالية، وشهد الجميع عرسًا أسطوريًا. إلا أن بسام لم يستشعر شيئًا من مظاهر هذا الفرح، بل كان حزينًا، منكسرًا، وقلبه يعتصره الوجع، لقد أخذ إبراهيم نصفه الآخر دون أن يعلم أنه يؤذيه في حبيبته.
كان عليهم التقاط صورة جماعية تذكارية، امتثالًا لرغبة والدتهم بأن يظلوا دائمًا معًا، لا شيء يفرقهم.
وقف إبراهيم على يمين الصورة، وبسام على يسارها، وتوسّطتهما مها وسارة. في تلك اللحظة، تخيّل بسام ماذا لو عاد نصفه الآخر والتأم معه ليكمل صورة الحب الرائعة، ماذا لو انحرفت بوصلة الأقدار لتتحول مها إلى جواره، وتصبح سارة إلى جوار إبراهيم. تمتم في أعماقه: “تبًا لبوصلة جامدة لا تتحرك”.
لم يلتفت إلى ملامح عروسه، ولا يكترث لذلك، فكل ما يعنيه هو كيف يختلس النظرات إلى مها. حاول أن يبدو لطيفًا وسعيدًا، و طيف حبيبته يرافقه.
تتهامس النساء: “عروس بسام أجمل، إنها كالقمر”.
وهناك من تشاهد بعيون تفيض بالدموع حبًا يُسفك على المنصة، وعلى وقع الزغاريد والرقص والموسيقى، ووسط فرحة الحضور، ندى وصديقة مها هما الشاهدتان على قصة حب طاهرة يُعلن اليوم عن انهيارها.
أي أقدار هذه التي تجعل القلوب محطمة كالهشيم؟
وأي تمثيلية هذه التي تدفعك لتقمص دور لا يشبهك، وتتصنع الابتسامة وفي القلب نار مستعرة؟
بسام على سرير واحد مع سارة، لكن طيف مها وحده يرافقه.
صار يحسد أخاه، بل يشعر أنه يمْقته، فهو ينعم بوجود حبيبته معه.
كان يلمح مها ويكبح نفسه بالقوة، لا يريد إحراجها، يتألم بصمت ويحاول ألا يدع أحدًا يلاحظ شيئًا. هي كانت تتجنب النظر إليه، على الرغم من إصرار إبراهيم عليها بأن تتعامل بشكل طبيعي مثل سارة، باعتبار أنهم جميعًا إخوة.
5.
في أحد الأيام، اتصلت سارة ببسام لتخبره بأنهن مدعوات إلى حفل خطوبة في الحي، وأنه لا يوجد أحد في المنزل، لكنها أعدت له الطعام ليأكله عند عودته.
عاد بسام، وحاول فتح الباب، لكنه لم يتمكن من ذلك.
فتحت له مها، وكانت المفاجأة، إذ التقيا وجهًا لوجه للمرة الأولى.
اعتذرت منه، وأخبرته أنها تنتظر ندى، وسألته إن كان يحتاج شيئًا.
دخل ولم يغلق الباب بإحكام، وتوجه نحو غرفته وهو في حالة ذهول، ثم طلب منها أن تقدم له الطعام، فذهبت إلى المطبخ، وتبعها، وهو يشعر بلهفة وشوق وحنين.
استغربت من مجيئه، وقالت: “سأضعه على الطاولة”.
قال بصوت خافت وقلبه يرتجف: “أردت أن أملأ عيني برؤيتك يا حبيبتي”.
قالت وهي مذعورة: “لا، لا، لا يجوز يا بسام، أنا زوجة أخيك الآن”.
قال: “وأنا أكاد أجن وأنتِ معه، إنه لأصعب شعور يا مها أن تكون مع شخص وروحك مع آخر، أنا مع سارة جسدًا، وطيفك معي، هل تشعرين بهذا يا مها؟ إنه شعور يقتلني كل لحظة”.
شعرت بالهلع وقالت وهي تتلعثم: “اخرج يا بسام، أرجوك ، أنا أحب إبراهيم، وهو كل دنيتي، وأنت معك سارة وهي جميلة، وتحبك بجنون.. الله يخليك، لا تسبب لنا مشاكل، وانسَ كل شيء”.
اقترب منها وقال: “أنا لا أرى جمال سارة، ولا يعنيني إن كانت تحبني، أنا لا أشاهد أحدًا أمامي غيرك، أنا مجنون بكِ وحدك، أنتِ روحي، أنتِ حبي، وأنتِ تكذبين، أنتِ لا تحبين إبراهيم، أنتِ تحبين بسام، اعترفي، قولي الآن: أنا أحبك أنت وبس”.
تراجعت بخطواتها للخلف وصرخت عليه : “بسام، كفى جنونًا، اخرج، اخرج”.
لكنه رد عليها بقوله: “كيف لي أن أتركك الآن؟ لمرة واحدة دعيني أضمك إلى صدري وأروي عطشي، أنا أموت كل دقيقة وأنتِ معه، دعيني أضمك ليهدأ قلبي، وأنتِ بنفسك قلتِ كفى جنونًا، أنا مجنون بكِ يا مها، وهذه هي الحقيقة”.
تحاول إبعاده عنها وبصوت اكثر حدة: “أنا أحب إبراهيم، وهو زوجي يا بسام، أرجوك ابتعد، ابتعد”.
أمسك بها وضمها إلى حضنه وهو يهمس: “حبيبتي أنتِ، نبض قلبي أنتِ يا مها، دعيني أضمك، وأرد روحي”.
شعر بكفها على وجهه، وهي تبعده عنها بقوة: “أنا أكرهك، أكرهك”.
في هذه الأثناء سمعا صوت الباب، فارتبكا معًا، وتسمرت مها في مكانها، خرج بسام لينظر من هناك، لم يكن أحد، كان الباب مفتوحًا، أخذ يتحسس خده، ومها تغطي وجهها بيديها وتبكي بحرارة، وتجري مسرعة نحو غرفتها.
على باب غرفتها المغلق وقف يحدثها: “سامحيني يا مها، سامحيني يا أعز من في دنيتي، لا أدري لماذا تهورت، لكني لم أستطع أن أتمالك نفسي أكثر، أنتِ حبي أنا، لا أعترف بما في الأوراق، أرواحنا وحدها ارتبطت قبل أي كلمات وثقت بالحبر”.
لم ترد عليه، فخرج وأغلق الباب، وعلى السلم وهو مسرع الخطى وجد ندى، سألته: “ما بك؟ هل هناك شيء؟”، لم يعرها أي اهتمام، ولم يلتفت إليها، وواصل طريقه.
خرج لا يدري أين وجهته، يهيم في الشوارع، يتذكر ما حصل، كان ما بين شعور العاشق الولهان الذي ضم حبيبته بين أحضانه، وما بين شعور الأخ الخائن. تأنيب ضميره لم يهدأ، يتحسس خده، يؤلمه بشدة، يهمس لنفسه: “من أين لمها هذه القوة كلها كي تصفعني هكذا!” .
كلماتها ترن في أذنه “اكرهك ،اكرهك” انهمرت الدموع من عينيه وهو يتمتم”كم هي مؤلمة هذه الحياة، وكم تخبيء لنا من خطط لم نسعى نحوها، كيف يمكن للحب ان يتحول للكراهية بهذه السرعة ،انها لعبة القدر من تبعثر مشاعرنا وتغير مسار ايامنا”.
جاءت ندى ومها غارقة في البكاء، تشعر بذنب لا يُحتمل، قالت ندى مستغربة: “وجدت بسام على السلم وكأن فيه شيء، كما التقيت بسارة ذاهبة إلى الصيدلية، وهي تبدو غير طبيعية، هل حصلت بينهما مشكلة؟”
مها: “لا، لا يوجد بينهما أية مشاكل، وسارة أساسًا في الحفلة مع عمتي وأسماء، معقول جاءت وسمعتنا؟”
– سمعت ماذا؟ احكِ ماذا حصل، كلكم فيكم شيء غير طبيعي. ارتمت مها في حضنها وهي تبكي بحرقة، وحكت لها.
قالت ندى بأسى: “هذا الذي كنت خائفة منه، الآن اغسلي وجهك وضعي مكياجك، ونذهب إلى الحفلة حتى لا يشعر أحد، وتجنبي الحديث مع بسام بكل الطرق، هذا حصل وأنا السبب فيه لأني طلبت منك أن تنتظري، وإلا ما كان رجع وأنت وحدك، بسام جُنّ على الآخر، من الآن يجب أن تأخذي حذرك منه”.
عادت سارة ووجدت مها وندى على وشك الخروج، أخبرت مها أنها شعرت بالإرهاق ورجعت، واستأذنت منها، ودخلت غرفتها وأغلقت على نفسها.
تبادلت مها وندى النظرات في حيرة، قالت مها: “كأنها ما سمعت شيئًا، الحمد لله”.
رجع بسام في الليل، وسارة متغيرة، ولا يعرف ما بها، نامت من دون أن تكلمه، قالت والدته: “سارة اليوم كانت تعبانة، ورجعت من الحفلة قبلنا، تفقد زوجتك إذا فيها شيء ممكن نأخذها إلى المستشفى”، لكنه كالعادة لم يعر الموضوع أي اهتمام.
6
مرت الأيام، ومها تتجنب رؤية بسام، وسارة لا تتكلم معه إلا بكلمات معدودة، ثم طلبت منه أن يخرجا إلى شقة وحدهما، كان مستغربًا من طلبها وقال: “هذا مستحيل، لن نترك أمي أبدًا، اتفقنا أنا وإبراهيم أن نظل معها”.
– لكن يجب أن آخذ أنا ومها راحتنا، أشعر أن مها مقيدة، ولا تجلس براحتها وأنت موجود، على الأقل أنا بنت خالتكم، وإبراهيم أخي الكبير، لكن هي من خارج العائلة.
– هل لمّحت بهذا؟ أم من اختراعاتك؟
– من دون أن تلمّح، أنا بنفسي ألاحظ، هي لا تغادر غرفتها إلا نادرًا إذا كنت أنت في البيت.
رفض بسام طلبها، وأصر عليها أن تغلق هذا الموضوع نهائيًا.
حاولت فيما بعد أن تفتح الموضوع مع خالتها، لكنها صرخت في وجهها، وقالت: “إذا رغبتِ بالاستمرار مع بسام لا أسمع هذا الكلام مرة ثانية، هل تريدين أن تفرقي بيني وبين أولادي؟ أي واحدة لم ترتح في جلستها معي بيت أهلها يعزها”.
تألمت سارة وحزنت، ورغم محاولتها إخفاء ذلك، لكن كان الكل يلاحظ تغيرها، وأنها على غير عادتها، وأغلب الأوقات في غرفتها. ذات نهار تعبت وتم نقلها إلى المستشفى، أخبرهم الطبيب أنها حامل وقد تتعرض لإسقاط الجنين، وأنها بحاجة إلى راحة تامة.
شعور جديد يعيشه بسام والطبيب يؤكد عليه أن راحة الأم وجنينها مسؤوليته بالدرجة الأولى، ولعل العامل النفسي يلعب دورًا. اختلطت مشاعر غريبة لديه: (الأم والجنين، والراحة والعامل النفسي، طفل من صلبه بين أحشاء سارة).
اقترب منها ولعله لأول مرة يرى وجهها الحقيقي بعيدًا عن طيف مها، انحنى ووضع قبلة على جبينها ثم جلس بطرف السرير وأخذ يتحسس بطنها، وهو يتخيل طفله، وكلمة بابا.
شعور جديد يقتحم عالمه، أخذ يراجع حساباته، يلوم نفسه، كان يشعر بتأنيب الضمير على ما فعله مع مها، وتقصيره مع زوجته.
حاول التقرب من سارة، لكنها كانت لا تعطيه وجهًا، وكأنها معه على مضض.
مرت الأيام وهو يراقب حركات الجنين، ويهتم بها، ويحاول ألا يلتفت إلى مها، فقد وضعت بكفها حدًا بينهما.
قرر أن يبدأ من جديد مع الحب، ويتخطى الماضي.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية