يحدثُ أن ترسمَ في طفولتكَ أحلامًا وتطلقها مثل عصافير ساحرة لتطيرَ في أفق العمر، ربما تلتقيكَ في محطات الحياة، وربما تغيبُ في ظلالِ الأيام تنساكَ وتنساها ،أحلامٌ تنبت من رحم الخيال وتزهر في النفس لتعطر الوجود بالقدرة على مواصلة المشوار بخطى يجلّلها الفرح والدهشة المتجددة .
من أجمل أحلامي في الطفولة أن أكتب في مجلة أدبية، لا أعرف كيف ولدتْ هذه الأمنيةُ و لما أزل على مقاعد الدراسة في المرحلة الأساسية الدّنيا ،وجعلتني أعلنُها وأخترعُ عناوينَ لما أكتبه، وهو لم يُكتب إلا على صفحة الخيال، وأحلم به منشورًا وأخبر زميلاتي الصغيرات بفرح صادق لترتسمَ دهشةٌ بكرٌ في ملامحهن ؛ربما لأنّ الكتابة بالنسبة لي أمنية لا أعرف كيف أضاءت أعماقي مبكرًا كأنّها شمسٌ سريةٌ تدفئ روحي.
ربما بتأثرٍ بالمجلات التي وعيتُ على صفحاتها في بيتنا ،وكانت من بواكير المطبوعات التي أفدتُ ونهلتُ منها أولى أبجديات القراءة؛ إذ كان الوالد -رحمه الله- يحرصُ على اقتناء المجلات وقراءتها شهريا ؛ مجلات العائلة العربية الثرية بالمعلومات و المحافظةو المتنوعة، والّتي تحوي الصور الملونة في وقت يفتقر للصورة، مع جودة الورق وجمال الإخراج وانخفاض السعر.
وتتكدس الأعداد في البيت الذي يضيقُ بأبناء عشرة إضافة للوالدينِ والجدةِ الطيبة التي تتلمذْنا الحنانَ من جمال وجودِها بيننا؛ من عطف الوالد عليها وحبّه الجمّ الذي لم يصرّح به بالكلمات فحسب وترجمه بالأفعال العفوية ، ومن رعاية أمّي لها رعاية راضية هادئة هانئة ،علّمتنا خلالها -دونَ كلمات- معاني وقيمًا نبيلة عميقة.
ضيقُ المكان دفع بوالدي لتجميع حصيلة الأعداد وإبقائها في “السدة” التي كانت بالنسبة لطفلة هي الصغرى في العائلة بمثابة الكشف السحري والنافذة التي تُشرع أمامها أبواب الحياة مقابل الإنغلاق وضيق المساحة المتاحة،والتي مثّلت بعدها بساط الريح حين تسلقتُ إليها مصادفة ذات عطلة مدرسية صيفية طويلة تكاد تنعدم فيها خيارات التسلية وكسر الروتين ؛ لأجد نفسي أمضي فيها الساعاتِ الطوال ولا أشعر بانسراب الوقت ،أتجوّل بين الكتب وأتصفح المجلات، وأكتشف عالم القراءة مبكرًا،في زمن لم تقتحمه الشاشاتُ ولا التكنولوجيا متسارعة التطور، وقتٌ مستقطعٌ أثّث علاقتي القريبة مع الكلمة وعشقي للغة ورغبتي في استمرار الكتابة وخوض رحلة الإبداع.