وحيدًا، يستلقي على سريرٍ طبيٍّ مُستأجَر، كأنما هو منفى أبيض يحاصره بالصمت.
أنبوب التغذية يمرّ عبر معدته كخيطٍ بارد، يذكّره بأن الجسد لم يعد ملكًا له، بل لأجهزةٍ وأنابيب تتناوب على إبقائه في حدود الحياة.
هكذا أكتب رثاءً مؤجّلًا، أكتبه بصوتٍ مكتوم، بدمعٍ عالقٍ في العين لا يريد الانحدار.
له ولد، وأربع بنات، وزوجتان على ذمّته، وإخوة وأخوات كُثُر، لكن لا أحد هنا.
لا أحد يقترب من سريره، سوى تلك الزوجة التي ارتكبت “ذنب الحب” حين أحبّته، وأُغرمت به وهو يعلّمها، حين كانت طالبةً تحت إشرافه.
هي وحدها ظلّت قربه، لأن قلبها قد رُبط به بحبالٍ لا يقطعها مرضٌ ولا يذيبها وجع.
كان يجيد فنّ الكلام، يعرف كيف يتوغّل في متاهات القلوب.
كان وسيمًا، لا بجمال الملامح فحسب، بل بعينيه الواسعتين، بشاربه الأبيض، وبحمرة وجنتيه حين يضحك.
ضحكته كانت عالمًا آخر: إمّا أن تملأ القلب حبًّا ونورًا، وإمّا أن تتحوّل إلى صوت رعدٍ قصير يزلزل المكان، ثم ينطفئ سريعًا.
هشٌّ في داخله، رقيقٌ حين يأنس بك، وعذبٌ حين يطيل الحديث.
لا أدري كيف أغراها بحبّه، وكيف رسم لها بنبرات صوته أناشيد خفيّة لا تسمعها سوى روحها.
كانت له عاشقة، وهي الآن له ممرضة، زوجة، أم، بل عاشقة ثالثة بعد ولديها منه.
تقلبه بين يديها ليلًا ونهارًا، تداويه بالنبض قبل الدواء، وبالصبر قبل الرجاء.
الجلطة اللعينة جعلته سجين هذا السرير، وجعلت جسده هزيلًا، لكن روحه ما زالت هناك، خلف تلك الجفون المغمضة.
الجميع ابتعد، والجميع تخلّى، إلا هي التي صبرت، وقلبها يزداد قربًا كلما ابتعد الآخرون.
كأنه ما زال في أيامه الأولى، يوم كانت الأرض تهتزّ تحته علمًا وكمالًا وهيبة.
الجميع كان يهابه، لعلمه الواسع ودماثة خُلقه، ولضحكته التي يعرفها الكبير والصغير.
ضحكةٌ تظلّ في الأذهان، كأنها جزء من تاريخ المكان الذي عبره.
أما أنا، فلم أجد متّسعًا من الوقت حتى أسافر إليه.
لكنّي لا أريد أن أراه وهو لا يعرفني.
أريده أن يفتح عينيه، أن يحدّق بي، أن يقول لي بلهجته المحبّبة: “ها اشجابك؟”.
أريده أن يعود كما كان، يضحك ويجادل ويعلّم، لا أن يُعاشَر بصمت الأجهزة والسرير الحديدي.
لا أدري كيف ستمرّ الأيام إن ظلّ غائبًا في غيبوبته.
ولا أدري متى يفتح عينيه، ومتى تعود ذاكرته التي خطفها المرض.