قصة قصيرة بقلم
د.عبد الإل
أنهىٰ فريد يوم عمله كالعادة على الساعة الرابعة والنصف، وككل يوم جمعة، قبل مغادرة مكتبه بالطابق الثالث، تأكد من تسجيل البيانات الأسبوعية على حاسوبه بعد مراجعتها، رتّب ملفاته قيد المُعالجة ورصّها. تَخلّص من أوراق مُسودّات تقاريره في سلة المهملات بعد جرشها، ثم تهَدهَد في كرسيه الدوَّار الوثير، ليسحب شفطات من سيجارته الالكترونية وينفث دخانها الكثيف على إيقاع أغنية هادئة تنبعث نغماتها من هاتفه الذكي آخر صيحة.
إسترخائه المُستَحقّ هذا، وهدوء الأغنية كانا يُساعدانه على البرمجة الأمثل لعطلة نهاية أسبوع عمله المُضني التي طال انتظارها.
كان فريد شابا في وسط عِقده الثالث، حسنُ الخِلقة، أنيقُ الملبس، حليقُ الوجه ويعبقُ بِأطيبِ العطور على الدوام. عاش طَوال حياته في ظِل أبيه، يأتمرُ بأمره وينتهي بنَهيِه. فقد لهىٰ في صِغره بلُعَبٍ إقتناها له السيد الوالد بنفسه، زاول رياضات أختارها بدلا عنه، ومارس هواياتٍ إرتئ أنها الأنسب له.
حصل منذ سنة على شهادة من مدرسة خاصة مرموقة، أُجبرَه والده على الدراسة بها كي يضمن له مستقبلا مهنيا لامِعا، في زمن أضحت الوظيفة العمومية لا تكفُل العيش الكريم لصاحبها. وبعد التخرج، سارع إلى تعيينِه بإحدى شركات المال والأعمال لأحدِ أصدقائه. ولمّا لم يكن مُرتّبه الأولي كافيا ليعيش بالمستوى اللائق بالإبن الوحيد لمسؤول أمن كبير سابق مثل والده، أهداه سيارة جديدة واقتنى له شقة جميلة في إقامة محروسة بالضاحية البحرية للعاصمة، ثم كلّف مُربيته التي أدركت السّتين بزيارتها وتوضيبها كل جُمعة، على أن يقضي يومَيْ السبت والأحد صحبة أبويه بالفيلا العائلية …
أخذ الموظف الشاب اليوم بالذّات وقتَه الكافي في الإسترخاء، وأطال التمحُّص والتفكير، فَسفَرُ والديه في رحلة عمرةٍ منذ أيام قليلة حرّره من روتين حياةٍ أصبح يَجثُم على صدرِه ويخنُقه. عليه إذًا أن يغتنم فرصة غيابهما هاته، ليُثبت ذاته ويعيش لأول مرة عطلة نهاية أسبوع متميزة، يُحدد برنامجها بنفسه، يُدقّق تفاصيلها بمعرفته، ويختار كيف ومع من يقضي كل لحظة من لحظاتها المُمتعة.
كان أول ما فكّر به، وهو الشاب اليافع الوسيم الذي ما زال بِكرًا ولم يذُق بعدُ حلاوة صُحبة الجِنس الناعم، كيف يلج عالم الكبار. عالَمٌ حُرِّم عليه حتى الٱن بدعوى سذاجته كما كانت تقول دائما والدته، بل لِقلّة نُضجه كما كان يُجيبها زوجها في كل مرة.
أخذ نفَسا عميقا وهو ينظر لإطار صورة فوق مكتبه، صورة يتوسّط فيها والدَيه وهو بزَيّ التخرج أُخذتْ في حفل تسليم الشواهد. دقق فيها جيدا، فالتَمعَت عيناه وقال بنبرة كُلّها تحَدّي: سأثبتُ لكما أنني أكبر ممّا تعتقدان، سوف أقضي عطلة الأسبوع من دونكما، وستكون عطلة نهاية أسبوع لا تُنسى…
أستقلّ سيارته في المرٱب التّحت أرضي للشركة وهمّ بالمغادرة بعدما بادل التحية مع موظف الحراسة المُسنّ الذي تمنّى له مساءًا سعيدا. وحين ناوله بعض النقود، أغدق عليه من دعواته المفضلة:
جازاك اللّه بُنَيّ بألف خير،
ويسّر لك كل أمر،
وجنّبك عثراتِ الزمن،
وأجارك من شرّ المِحن،
وأبعد عن طريقك بنات الحرام والأشرار،
ولَطَف بك في ما جَرَت به الأقدار.
قاد مسافة طويلة شاردا يفكر بتلك الدعوات المسجوعة، لكنه عندما أدرك الكورنيش، أنقص السرعة احتراما لممرات الراجلين وأطلق العنان لبصره يُجيله مَيْمنة ومَيْسرة ويُحملق في الكمّ الهائل من الفتيات الجميلات على الرصيف. كانت أغلبهن تمشين الهوينىٰ وتتّإدن بغَنَجٍ ودلال وهن بجلابيب ووشائح بهيجة وبُلغ وشرابيلَ بديعة. كانت بعضهن بشَعرٍ مكشوف وتسريحاتٍ جذّابة، بألبِسة عصرية مختلفة، من فساتين وسراويل وأقمصة وتنانير، وبمِشية أكثر إثارة، تضربن بأرجلهن التي تعتلي كِعابا تفاوتَ طُولها. بينما كانت هنالك قلة قليلة من الشابّات الرشيقات ببذلات وأحذية رياضية، تلبسن نظارات شمسية, تضعن سماعات أذن لا سلكية، وتُسرعن الخَطو في التزام بأصول رياضة المشي.
من بين كل هؤلاء، إسترعت إنتباهه شابة شقراء بقميص صيْفي أبيض وسروال “جينز” ضيق يُبدِيان بَضاضة بدَنها، تمشي على مهل حاملةً حقيبة ظهرية صغيرة على كتفها الأيمن، وعندما اقترب منها، إلتفتت إليه. تبسم في وجهها، فبادلته على استحياء إبتسامة عذبة حرّكت في دواخله أحاسيس طامها تجاهلها. تردد لثواني مُبطِّئأً سيارته، ثم قرر أخيرا التوقف على بعد أمتار. عندما لحقت به، إستجمع كل شجاعته وخاطبها بخجل، مساء الخير ٱنستي، هل تسمحين لي بإيصالك إلى قصدك؟ يبدوا أن إتجاهنا واحد !
تَفرّستْ شكله جيدا ثم فتحت باب السيارة واستقرّت إلى جانبه قبل أن تربط حزام السلامة وترُدّ: مساء الخير أيها الشاب الوسيم…..
أحسّ بسعادة مُنقطعة النظير وأقلع سيارته وهو يقول لنفسه، أترى يا فريد؟، الأمر أهون بكثير مما كنت تتصور. أكيدٌ أنها ليست ضربة حظ، إنما هي مؤهلاتك الكبيرة التي طالما استصغرها والدك ضلما لسنين.
شَغّل المُكيّف، وأطلق أغنية شبابية مرِحة ثم سألها بلُطف: هل أنت مسافرة؟. كلا ردت وهي تشير إلى حقيبتها، عليّ فقط أن أُوصل هذه الأمانة إلى خالتي بحي الكفاح، وبعدها أفكر في أخد مشروب مُنعش في أحد المقاهي، فلقد أعطشَني هذا القيض. أجابها مُتفهِّما: أنتِ على حق, موجة الحَرّ هاته تُنذر بصيفٍ ساخن. سأكونُ سعيدا بأخذ مشروب برُفقتك إن قبلتِ، ولكن بشرط أن أكون أنا من يدعو… إفتَرّتْ شفتاها عن ابتسامةِ رضا وسألته السؤال الذي كان ينتظره: ماهو عملك؟… سُرّ الشابُّ ومضىٰ طول الطريق يُسهب في الحديث بفخر كبير عن طبيعة عملِه المتميز في مجال المال والأعمال، عن نُدرة تخصّصِه وعن إتساع آفاق مُستقبله الواعد. كانت تُنصت إليه باهتمام كبير وتُبدي إعجابها بحديثه رغم أنها لم تكن تفهم الكثير من كلماته الإفرنجية، وعندما أدركا مشارف ذلك الحي الشعبي، قاطعته بلَباقة لتُرشده الى العنوان وسط الأزقه الضيقة المكتضّة. بعدما أوقف المحرك أمام مدخل زُنيقة الخالة ومكث ينتظر عودة الفتاة التي استأذنته في خمس دقائق طويلة، ورغم حرصه على ركن سيارته بعجلتين فوق الطّوار، لم يسلم من اصطدامٍ تسبّب فيه سائق مراهق لدراجة ثلاثية، خدش الجانب الأيسر للسيارة وواصل سياقته المتهورة دون مُبالاة إلى أن اختفى وسط الدُّروب .
خرج ليتفقّد آثار الإصطدام، فغاضه ما رآه من مدىٰ التّلف الذي لحِق بعربته، لكنّه حاول تمالك نفسه، فهو لا يريد أن يتعكّر صفوُه وهو مُقبل على قضاء وقت ممتع….
عندما رجعت من مُهمّتها، وجدَته أقل بهجة مما تركته عليه، فخمّنت أن تأخُّرها كان هو السبب. لذا بادرت الى تبريرٍ يُطفئ غضبه . أتدري؟ إنها خالةٌ كسائر الخالات, لم ترضىٰ إخلاء سبيلي دون السؤال عن تفاصيل أخبار العائلة فرداً فردًا، ولم أستطع التخلص من قبضتِها إلا بشِقّ الأنفس. آسفة عزيزي….
أجابها عابسًا: لا بأس، وركّز في القيادة، وحين اُستأنفا الشارع الرئيسي، إستوقفته بغنج لا يقاوم, سأستأذنكَ في خمسةِ دقائق أخرى قالت… ، وبعدها سأكونُ تحت إمرتك، تفعل بي ما تشاء.
لم يستطع رفض عرضها المُغري، فأوقف سيارته مُجدَّدا ومَدّها دون استفسارٍ بورقة نقدية من فئة مائة درهم طلبَتها منه. قصدَت متجرا مقابلا إقتنت منه علبة سجائر أمريكية، ثم عرّجت على بائع فطائر مشهور، إكتض الزبناءُ من حوله طلبا لفطائره الدّسمة اللّذيذة الذائعة الصِّيت.
وهو داخل سيارته في المكان الذي طلبت منه انتظارها فيه، خامرَت فريد أفكار شتّىٰ، وتصور سيناريوهات عِدّة لبرنامج هذا المساء، فسرح به خياله……. بعد فنجان القهوة، سأدعوها لتناول وجبة العشاء في مطعم مُحترم، وبعدها… سأعرض عليها السّهَر في ملهىٰ ليليّ مُتفرّد، وبعدها…. لم يستطع الذهاب أبعد من ذلك في تخيُّلاته وكأن رقيبا ذاتيا منعه من ذلك وانتشله من شروده. حين أفاق من إغفاءته، لاحظ تواجد صيدلية بالقرب منه فتوجه إليها. دخل مُتحرِّجا وخاطب إحدى البائعات بشيء من الخجل، فامدّته بطلبه الذي أحكمَتْ لفّه في كيسٍ ورقيٍّ صغير.
عندما رجع إلى سيارته، وجد شُرطيّ مرور يحُوم حولها ويُصوّر لوحات الترقيم قبل السماح لصاحب عربة الإنقاذ المُتأهبة لجرها بإيداعها المحجز البلدي. حياهُ بأدب، قدّم نفسه وحاول استعطافه مُبررا توقُّفه الإضطراري من أجل اقتناء دواءٍ حيوي، ومُبديا غاية الأسف لعدَم احترامه للتشوير وعلامة منع الوقوف. لم تلقَ تبريراتُه أُذنا صاغية لدىٰ ذلك الشرطي الخمسيني النّحيف، شرطي بوجه شاحب مسُوم بالعناء، وشعر مُنتفِش مخوط بالشيب، تشي ملامحُه المُترهّلة بالشيخوخة المبكِّرة التي أدركته. طلب منه أوراق السيارة بنبرة حادّة وحرر المخالفة ثم استخلص منه الغرامة وغادر.
َلم يكَد يركبُ عربتَه حتّى أقبلت الفتاة مُسرعة الخطو وصعدت بجانبه، فأدار المحرك وانطلق دون أن ينبس. لم تجرؤ على الإعتذار عن تأخرها ثانية، فلزمت الصمت لثواني طويلة قبل أن تطلب منه تشغيل أغنية شعبية خفيفة، وتبدأ في ترديد كلماتها والترقّص على إيقاعها في حُبور طُفوليّ بُغية تلطيف الجو .
إحتاج فريد لدقائقَ كي يُبدِّد مِن على مُحيّاه آثار الغضب الذي خلّفته الغرامة الثقيلة، وبعدها، حدّث نفسه قائلا: لن تُعكّر مزاجي تلك الغرامة الملعونة، ولن تضيّع على حلاوة سهرة واعدة مثل هذه، فابْتَهَجَ وترقّص وتَمَاهىٰ مع مرافِقته إلى أن وصلا مقهىً ساحلي فاخر ألِفهُ منذ سنوات.
إستقبلهما النادل الأنيق الهندام بعبارات الترحيب واقترح عليهما الجلوس الى طاولة في المَصطبة لمُقابلة البحر والتّمتع بالمنظر الخلاب للأفق المخضّب بحُمرةِ الشّفق في حينه، وقبل المغادرة، سجّل طلبيهما على لوحته الإلكترونية الصغيرة : قهوة “نسبريسو” للزبون، وعصيرٌ متنوع لمُجالِسَته.
أماطت نظّاراتِها الشمسيةَ ومشّطت المكان بجولة خاطفة من عينيها، ثم وضعت علبة السجائر على مفرَشة الطاولة الأبيض المطرّز الجوانب. لكنه، سُرعان ما نبّهها بلباقة وهو يشير إلى لوحةِ حمراء مثَبّتة على دعامةٍ جانبية تُفيد: “لغير المدخنين”. إنزعجت قليلا ولكنها أذعنت للأمر، فأخفت العلبة في جُويِّبٍ لحقيبتها الظهرية وأخرجت منها كيسا بلاستيكيا مُندّى أفرغَتهُ لتنشُر فوقه فطيرة دسمةٍ صفراء َ تنضَحُ بالبُخار.
عندما رجع النادل مُحمّلا بصينية الطلبات، راعه ما رأى ووقف مشدوهاً. نظر الى الشابّ وخاطبه بمُنتهى الأدب: عذراً سيدي, ولكن سياسة المؤسسة تَمنعُ استهلاك مأكولاتٍ من الخارج. إنتفضت الفتاة وصرخت في وجه النادل بفضاضةٍ غيرِ مُنتظرة: وما شأنك أنت؟،نستهلك ما نريد، لك علينا فقط ثمن مشروباتك،… لا أخالها صدقة منك… حافظ النادل على هدوءه، لكنها واصلت مُلاسنتها الفَضّة بانفعالٍ أذهل مُرافِقها الذي سعىٰ لتهدئتها دون أن يفلح في ذلك. وعندما استيأسَت من مُناصرته لها، أرجَعَت الفطيرة الى الكيس، والكيس إلى الحقيبة، ثم قامت لتغادر المقهىٰ وهي تَتَفوَّه بأبشعِ الشّتائم.
قام من مكانه مُعتذرا وألحّ على دفع ثمن المشروبات قبل أن يلتحق بها في مركَن السيارات حيث وجدها جِدَّ مُتوتِّرة تنفُث دُخان سيجارتها، حاول قدر ما استطاع تهدئتها واعداً إياها أن يُنسيها هذا الحادث البائخ الذي لن يُفسد بأي حال من الأحوال أُمسِيتهما الرّائعة المُنتظَرة. عندما هدأت قليلا، إستقلّا السيارة من جديد وواصلا طريقهما البحري في اتجاه مقهىًٰ أقل صرامةً، غير أنّها بعد صمت قصير، فاجأته بسؤال أربَكَه من جديد: هل لديك شقة؟. أجاب مُتلعثما وهو يُفكّر في المربّية…. نعم….كلا….في الحقيقة، هنالك ظرفٌ خاص ينبغي أن….. لم تدَعه يُكْمل الإجابة وأمَرَته بحزمٍ أن يُنقص السّرعة ويتّبع مَسلكا على يمينه. مسلكُ تُرابيّ يُفضي إلى جُرف صخري يَلِج إليه العُشّاق للتّمتع بجمال الغروب. إنصاعَ دون تفكير رُغما عنه لكّنه لم يستطع إخفاء توجُّسه، فسارعت إلى طمأنته بكلمات زوّدت على العكس ارتباكَه: لا تقلق، هذا المكان آمن. أرتادُه منذ مدة ولم يسبق لي أن صادفتُ أدنىٰ مشكلة.
عندما أوقف سيارته على مشارف المُنحدر، كانت الشمس توشك على المغيب، وقيض النهار ينسحب متمهّلا كي يُفسح المجال لنسمات البحر المُنعشة. أجالَ نظرَه يمينا وشمالا ولاحظ العدد الكبير للسيارات المركونة مُستقبِلة البحر في أمان، فٱطمأن قلبُه.
وضعت الفتاة ورقة لفّ على راحة كفّها الأيسر وأفرغت فوقها محتوى سيجارة شقراء، ثم أخرجت قطعة حشيشٍ من جُويْبِ بِنطالها ، سخّنتها بولاّعتها المتٱكلة وبدأت تنثر شَذراتٍ منها فوق التّبغ بفركٍها بين سبّابتها وإبهامها اليُمنيين. بعدما أحكمت لفّ الورقة، ثَبّتته مستعينة بلعاب طرفِ لِسانها فاستوت اللُّفافة. أشعلتها، وسحبَتْ نفَسا عميقاً تبطّأت في نفْثه…..
بعد النّفَس الثالث، صارت الصّبية أكثر هدوءًا وانفكّت عُقدةُ لسانِها فاستأنفت الحديث……
حدثتهُ عن والدها الذي هجر البيت وهي لا تزال في المهد، عن أخيها الأكبر الذي لا يُغادر السّجن إلأّ ليعود إليه، عن مرض أختها العُضال وعلاجه المُكْلِف، وعن يومياتها الكئيبة مع الصّالح والطّالح من الرجال التي تُواعِدهم منذ أن غادرت المدرسة قبل الحصول على شهادة الإعدادية.
بدَتْ علامات التأثر واضحة عليه، وأخذ يُنصت إليها في خشوع إلى أن سمِع صوت نقْرٍ على نافذته، إستدار وأنزل الزجاج، فطار الدخان ليتكشّف له وجهُ دركي شاب بشارب مقصوص بعناية، أشهر إبتسامة عريضة قبل أن ينطق: مساء الخير أيها الشباب. هل كُلُّ شيء على ما يرام؟…..
أجابه مُتلعثما: أجل سيدي، كلّ شيء على ما يرام.
جيد، جيد، علّق الدركي وهو يمطّ عنقه ليتفحص داخل السيارة ويسأل الفتاة: أنت بخير؟.
أجابته: بألف خير سيدي، شكرا.
جيد، جيد… علق ثانية، ثم استأنف سؤالها: كم عمرك يا فتاتي؟
أجابته: تسعة عشر سنة منذ أسبوعين.
جيد، جيد… إذن لديك بطاقة تعريف…..هل يمكنني أن أراها؟
بالطبع لديّ بطاقة تعريف، لكنني لا أحملها معي، أتركُها في المنزل خِشية أن تضِيع منّي …..
هنا، إختفت الإبتسامة وانقلبَت سَحنتُه وتغيرت نبرةُ صوته وعَلّق مُتهكِّما: أجل، أجل ….ألِفتُ مثل هذا الجوابَ من أمثالك.
رجع خطوتين إلى الوراء واستقام وقال مخاطبا السائق الشاب الذي بدأ التوتر يجتاحه : التغريرُ بقاصر، وتشجيعها على إستهلاك مادة مخدرة ممنوعة، والبقية تأتي…ليس الأمر على ما يرام كما تعتقد…. تَفضّل بالخروج من السيارة والادلاء بأوراقها.
بُهِت فريد وغشِيَه رُعب مُشِلّ، وتمثل له أن كُل حياتِه تنهار في ثواني، وعندما همّ بالإمتثال، قبضت الفتاة بشدة على فخذه اليمنىٰ الممشُولة المُرتعدة كي تمنعَه من الحركة، وخرجت من السيارة بدلا عنه. تقدمت خطواتٍ تجاه الدركي وأمضت دقائق طويلةّ تُحادثه برصانة، وتُلقي من حين لآخر بنظرات خاطفة في اتجاه فريد .
أما هو فمَكَث يراقبها في وجوم، وصدره يظطرم بمشاعرَ تداخلت فيها الحيرةُ بالخوفِ والإحساس بالضياع، وضل على تلك الحال إلى أن إقتربت منه من جديد وأمرته أن يُناولها محفظة نقوده. أمدّها بها دون مقاومة. فتحتها وأخرجت ما كان بها من أوراق نقدية وسألته بانفعال، كم هنا؟. أجابها فزِعاٌ: لا أدري…. ألفَيْ درهم أو رُبّما أكثر بقليل. ثَنت حزمة الأوراق في يدها وأحكمت قبضتها، وأمرته أن يُشغّل المحرك ويستدير بالسيارة استعدادا للمغادرة…..
لم يدْرِ فريد كيف قطع ذلك المسلك الغير مُمهّد في ثوانٍ معدودات رغم العتمة التي انثالت على المكان، وعندما باشر الطريق الساحلية من جديد، طلبت منه الفتاة أن يوصلها لمنزل والدتها فورا لوضع حدٍّ لسلسلة الأحداث المُقرِفة التي عاشتها بسببه، إذ لم تر قبلُ يوما أنْحس من يومها معه كما صرّحت له وشرار الغيض يتطاير من عينيها. إنصاع دون تردد وقطع تلك المسافة الطويلة التي تفصله عن سُكناها في الجانب الآخر من المدينة من غير أن يتفوه بكلمة واحدة…
عندما دخل حي الفضيلة، وتسلل بين دروبه الضيقة، لم يعُد يُفكّر إلا في الخروج منه سالما، خصوصا بعدما رمقَ جُيوشا من شباب عُطُل يُرابطون فُرادىٰ وجماعات في مدخل كل زنقة، ويراقبون بنظرات مريبة مرور الغرباء عن الحي.
قبل النزول من السيارة، طلبت أتعابها دون الإلتفاتة إليه، فرد بارتباك: عذرا ولكن… لم….، وأنتِ بنفسك أفرغتِ ماكان بمحفظتي. أجابته بصوت عال متشنج: لا أريد أعذاراً خرْقاء، أضعتُ يومي معَك هباءاً، وتعرّضتُ لأسخَفِ المواقف بسببك، وأنجيتُك من مأزق كان سَيعسِف بمستقبلك المهني (الواعد)، وتجرؤ مع ذلك كله على المجادلة، قبّحَك اللّه مِن رجل، لم أرَ في حياتي أحقَرَ مِنك. والآن ….لك الإختيار، إما أن تُسَلّمني ألف درهم طواعِية وعلى الفور، وإما… سأُكلّف شباب الحَومة باستخلاص مُستحقاتي منك بطريقتهم الخاصة.
لم يستسغ ماذا يقع له، عُدوانيتها المُخيفة أرهَبتْه، وتهديداتها المُرعبة شلّت قدرته على التفكير، ولم يجد سبيلا للحل سوىٰ استعطافَها لقَبول ساعتِه “الرولكس” وهو ينزعها من معصمه، ولمّا حدجته بنظرة ساهمة، ترجّاها أن تقبل عرضه وهو يحلِف بأغلَض الأيمان أنها ساعة أصلية باهضة الثمن، جلبتها له الوالدة من متجر متخصص في “جونيڤ” السويسرية وأهدته إياها بمناسبة تخرّجِه .
أخذت منه ساعته وانتشلت هاتفه “الأيفون” بحركة عنيفة ونزلت من السيارة، وعندما تأهب للإقلاع، سمِعها تقرع النافذة بقوة وتأمره بالتوقّف. فلما فعَل، فتحت الباب الورائي، وأخذت حقيبتها الظهرية الصغيرة وصرخت في وجهه: تريّث أيّها الوغد، كِدتَ تذهبُ بفطيرتي عليك اللّعنة، ثم أوصدت الباب بعُنف أحدثَ صوتاً مُدوّيا ….
قوّم المِقود وضغط على الدّواسة وانطلق بسرعة كبيرة راجيا الخلاص أخيرا، ورغم اصطدامه بجانب من الحاوية المعدنية لنفايات الحيّ، وتهشيمه لمرآة الرؤية الخلفية اليُمنىٰ، حافظ على سرعته دون اكتراث واختفىٰ في لَمحِ البصر.
بعد نصف ساعة من السياقة وهو في حالةِ شِبهِ غيبوبة، ركَنَ سيارته على مَبعدةٍ من الحي الراقي لمَسكَن والديه لكي لا يفتضحَ سِرّه، وأمضىٰ ليلةً بيضاءَ تكرّرت خلالها في ذِهنه أحداثُ يومِه إلى ما لا نهاية، وفي الصباح الباكر، أفرغ ما تبقى من مُرتّبه في حسابه البنكي من شباك أوتوماتيكي، وقَصَد ورشةَ إصلاح هياكل السيارات. ثم رجع في سيارة أجرة صغيرة، منكسر الخاطر، ليُمضي يومَيْ السبت والأحد من نهاية عطلته الأسبوعية المتميزة التي لن تُنسى
من دون والديه، لكن، في الفيلاّ العائلية…