فيكساتور / بقلم : رباب هلال – دمشق

 

 

المرأة التي لا تني تهطل في أوّل البدايات، أو التي تُسقِط منّي البدايات دائماً، تتشبّث بي. مراراً، حال أخلعها، لا تكاد تسّاقط عنّي مثل ثياب مكوّمة للغسل، حتّى ترتديني مرّة أخرى، بالبقع ذاتها، باللون الكامد عينه.

الآن هي تحتلّني. أحاول أن أنسلّ منها عبر النافذة المشرعة، وعبر ليل صيفيّ مسربل بالخريف، فتغمز لي الأضواءُ ساخرة، تشعّ حيناً، وحيناً آخر تختفي وراء ظلال الأشجار السكرى ببرودة مباغتة.

أشعر بالحرّ، رغم خفّة الريح التي تنطّ إلى شرفتي العالية، ومن دون استئذان، تفتح الباب وتنفلت بين ساقيّ. تبقى ساقاي متدلّيتين إلى شيء أشبه بالأرض. ألامسها بحياد من لا يجد موطئاً لقدميه بين حشد من البشر يتفرّجون على ما يشدّ فضولهم.

الحرّ شديد الفضول في هذا الليل الفارغ. هدوء لا يخدشه سوى صوت خفيض لموسيقا هادئة، يختلط حيناً بحفيف الخريف الذي ينداح في هذا الليل الصيفيّ. لست أدري إن كنت أنا أم المرأة من وضعت الشريط في آلة التسجيل!

أحاول تصديق قدوم الخريف بكامل قيافته ورائحة عطره. لكنّ المرأة التي ترتديني تردعني. أحاول السخرية منها لافتة رأسها العنيد إلى تطاول الحفرة المتسارع، الحفرة المثقلة بالشواهد! لا أفعل. أكتفي بارتشاف قهوتي، وإشعال سيجارة جديدة.

المرأة العنيدة تظلّ مشغولة بترتيب أزمنة قدميّ وأمكنتها، وترتيب فوضى المكان. تبدو أمهر منّي باقتناص الحشرات الليليّة المتطفّلة. أمّا أنا فأخلّي نفسي للخوف.

تنهض المرأة منّي لتطارد ذبابة كبيرة. أرمقها بعينين مشفقتين وهي تدور وتنطّ. أنهض بهدوء، أحمل علبة (الفيكساتور)، أنتظر وقوف الذبابة في مكان خفيض، ثمّ أضغط بخوف، تتثبّت الذبابة. ترتمي. ترمقني المرأة المهووسة بالترتيب. تمدّ قدمها. تدهسها. ثمّ تسارع لتنظيف المكان.

أبتسم لاختراعي. أحمل علبة (الفيكساتور)، وأنتظر حشرات أخرى.

لا أحبّ المرأة التي لا تني ترتّب الفوضى، لكنّني أستسلم أحياناً لخزعبلاتها الفلسفيّة، معتقدة أنّ قليلاً من الفلسفة قد يجعل لقدميّ موطئاً بين الحشود الفضوليّة.

أثبّت نظراتي على علبة الفيكساتور. يلزمني كثير من التدريبات لحلّ مشاكلي، خاصّة مهمّتي الدؤوبة في خلع تلك المرأة. أودّ أن أرميها في تفاصيلها المملّة وخزعبلاتها الفلسفيّة.

أجدني أقبض على العلبة التي تنتظر حشرات أخرى. أتذكّر المدرسة، حين ضحكنا لاكتشاف أنّ (الفيكساتور) يعني المثبّت بالعربيّة. وأن التدريبات النحويّة تترجم حرفيّاً: التدريبات المثبِّتة. أتذكّر رفيقتنا التي وعدت أن تضع قاعدة الشرط على شعرها لثبيته بعد الحمّام.

الأمر في غاية السهولة. لم التعقيد إذاً!

هكذا وجدتني أمور في إحدى الخزعبلات الفلسفيّة، وأنا ألوذ (بالفيكساتور) من دون أيّ شرط لحلّ مشاكلي وحلّ شعري المربوط.

حين غادرتَني في الصباح، كنتَ قد نمتَ على شعري المفرود. استمعتُ لأنفاسك وهي تتنشّق رطوبة شعري المستحمّ. كنت مفرودة مثله. وكنت تجمعني. لم أدر ما كانت تفعله تلك المرأة في الغرف الأخرى. كنت أسمع ضجيج حركاتها، ترتيبها للأشياء، طردها للغبار، وتأفّفها المملّ. بينما كنت أسترخي لأنفاسك وهي تستنشقني، سعيدة أنّ الباب مغلق علينا وحدنا.

في الصباح، وأنت تغادرني، كنت أصلّي أن تبقى ذرّات رائحة شعري الرطب في رأسك، جلدك، عظامك. أغلقت الباب وراءك. بكيت وأنا أربط شعري.

أضع عينيّ بين أصابعي، أعتّم المكان، لتنار ذاكرتي بك. أيّ (فيكساتور) أحتاجه ليثبّت فيّ يقيناً، أيّ يقين أبتدأ به بداية غير مشروطة، بداية أثبّتها في دماغي، دون أن تهطل من أصابعي حين تنبلج امرأة الخزعبلات الفلسفيّة. أيّ (فيكساتور) كان يلزمني أمس كي أثبّت الخوف خارجاً، وأثبّت ذراعيك حولي وأنا أقول: “خائفة!”. كنت تلفّني بذراع، وكانت الأخرى تتّصل بمكتب السفريّات.

بغتة، تقفز المرأة. تطارد صرصوراً صغيراً. أخلّيها وهي تحمل علبة (الفيكساتور)، تثبّته، تدهسه، ثمّ تسارع لتنظيف المكان. تبتسم لي غامزة بعينيها الظافرتين. أكتفي بسحق عقب سيجارة. لا أنظر إليها.

تخفق برودة الليل خارجاً. ليل صيفيّ خريفيّ. أحاول أن أصدّق اختلاط الفصول. أحاول أن أركّز على خفّة الريح المتدفّقة من فتحات البيت إلى ساقيّ. يطوف الحرّ بي. أختلط ويضيع التركيز. لن أصدّق الخريف الليلي المباغت هذا.

يغوص الوقت في تأخّره. وأنا لا أغوص في شيء. كلّ ما حاولته منذ بداية المساء تسرّب. بداياتي الهاربة، دائماً تصرّها المرأة في حضنها، وترتديني من جديد.

كم مرّة حاولت أن أتذكّر تاريخ استيطانها فيّ، عبثاً! أحياناً أقول سيّان! أدير ظهري لها، لأجدها أمامي. معك وحدك، أتشجّع لاغتيالها. لكنّك.. لكنّها.. كأنّني…! أنتبه إلى أنّي ما زلت أحمل علبة (الفيكساتور)!

يأتيني صوتك قريباً، دفيئاً:” ركّزي معي!” أتثبّت فيك. نحاول بداية ما، تمزيق حجاب ما.

“ركّزي معي!” يدفئني صوتك.

وقبل أن أرتمي في أتونك، أجدني أنسج بداية أخرى. أرتمي في سحيق الصقيع. بينما هي تفلسف الفضاء تفاصيل تافهة. أهرع إليها بغية إسكاتها، صفعها، أو قتلها. وما أن أقف قبالتها حتّى تحدّق بي، تخيفني. أدفعها للوراء. أحاول ركلها. لكنّها تظلّ ثابتة، محدّقة في عينيّ الهاربتين. وقبل أن تمدّ يدها إليّ، أحتمي في حضنك، وعبثاً أثبّت تركيزي!

الحرّ. الليل. الوِحدة. قهوة أخيرة. سيجارة أخيرة. النعاس المنتحب بعيداً. الجسد المحتّلّ. الروح التي لا تجيد التركيز. قلق البداية. تشدّ أصابعي على علبة (الفيكساتور). لماذا لا أرشّها بقليل من (الفيكساتور)؟

يلتصق جفناي. أتعتّم. تجمد دموعي. أمدّ أصابعي لأطمئنّ أنّ المرأة قابعة بجانبي. لماذا لا أجمّدها هي الأخرى؟ أضغط. أرشّها. أثبّتها.

أجدني تائهة. يأتيني صوتك آمراً:” ركّزي!”

علام أركّز وحيدة ومعتّمة؟ لكنّني أطمئنّ إلى جمود المرأة المتيبّسة بجانبي، فاتلمّس طريقي إلى الحمّام. أغسل وجهي. أنظر في المرآة. المرآة فارغة! أرتعد. أهرع إلى حيث كنت. المرأة المتيبسة اختفت!

تباغتني كومة أوراق تطفح بكلمات متقافزة، تحاول التركيز على شيء ما، فكرة ما، عبثاً. هل كنت قد بدأت تدوين شيء ما؟ لا أتذكّر. مجرّد حبر محفون في حروف على بياض خالية من أيّ تركيز!

أطلّ عبر النافذة المشرعة. لا ريح. وأنا وحيدة. لا أدري لماذا أحمل قلماً بيمناي، ويسراي ما تزال تحمل علبة  (الفيكساتور)، خفيفة، فارغة. وعلى الأرض تمدّد ظلٌّ كثيف لامرأة. ظلّ امرأة جامدة مثبّتة!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!