في الليلة التي دفنتُ فيها طفلي، كان القمر بعيدًا. بدا ثابتًا مثل حجر يختبئ خلف غيمة عابرة. لم يكن المكان كأي مقبرة، بل كان معزولًا، صامتًا، كأنه لم يشهد موتًا من قبل، والهواء مثقل بصمتٍ لا شيء يسمعه سوى الأرض. حفرتُ القبر بيديَّ العاريتين الباردتين، لكنني لم أدفن سوى صورته في رأسي، أكثر مما دفنته في الأرض. كل حفنة تراب كانت ثقيلة، تدفعني بعيدًا، كأنها ترفض ما يحدث.
في الأيام التي سبقت موته، تغيَّرت أشياء كثيرة لم يكن في مقدورنا أن نستوعبها. كان يحدق طويلًا في الزوايا، يرفض الطعام بلا سبب، وكلما انتصف الليل، خرجت ضحكاته من مكانٍ آخر. كانت زوجتي تضمه إلى صدرها كأنها تحاول أن تحميه من شيءٍ لا تراه. وأحيانًا، تغلبها الرهبة، فتظل قريبة منه، تراقبه بصمت حزين.
قالت لي في ذلك المساء:
— إنه يراهم هناك، خلف الأبواب.
ضحكتُ، لكن الضحكة كانت ثقيلة في حلقي.
في الليلة الأخيرة، استيقظ مذعورًا، عيناه متسعتان بشيء لا أستطيع وصفه، وبإصبعه يشير إلى الزاوية المظلمة من الغرفة. كان صوته واهنًا، متقطعًا، كأن همسًا آخر يتردد بيننا في الغرفة، بدا لي مسموعًا، يزحف من تحت الأرض ليصل إليَّ:
— إنه هنا…!
التفتُّ بحذر شديد. لم أرَ شيئًا وسط الضوء الشاحب المنبعث من لمبة السقف. لكنني شعرتُ به.
ألقيت نظرة على زوجتي، كان طفلي متكوّرًا، وقد دفن وجهه في صدر أمه، وجسده يرتجف. حاولتُ أن أطمئنه: إنها مجرد كوابيس… تلاشت كلماتي في ضباب الغرفة. كنت أريد أن أصدِّق أنها حُمّى الهذيان… لكن شيئًا ما، في عمق روحي، كان يرفض ذلك، كأن قلبي يتذكّر شيئًا لا تعيه ذاكرتي.
بعد الدفن، بدأت الأشياء تتغير. استطالت ليالي الخوف. الطرقات المتواصلة من تحت الأرض كانت تتسلّق الجدران، وتتمدد إلى شيء أشبه بأنفاسٍ باردة ومتلاحقة. منذ تلك الليلة، تحول كل شيء بيننا إلى قلق دائم.
زوجتي تجلس على حافة السرير، لا ترفع عينيها عن الزاوية نفسها. تهمس:
— إنه هناك.
ثم تلتفت بقلق:
— إنه يحاول الخروج.
كنت أخبرها أن هواجس الحزن أحيانًا قد تتحول إلى مخاوف تصنع لنا أوهامًا أخرى، تأتي من فراغات الوجع والكتمان، وكثيرًا ما تقودنا إلى تصورات غير حقيقية. لكنني كنتُ على يقين أن زوجتي لم تخطئ في هواجسها، وذلك الحدس في داخلي لم أستطع إنكاره أبدًا.
كان يتناهى إلى سمعي صوت همسات غير مفهومة، والوقت يمرّ بإلحاح غريب، كأن أصابع كائن ضئيل تضرب على الخشب تحتنا، تنتظر أن يجيبها أحد.
— إنه يقترب كل ليلة.
قالت لي زوجتي، وبكت. كان صوتها يرتعش، لا يشبه الصوت المعتاد الذي أعرفه. كانت هناك أشياء تلاحقنا، دون أن نراها.
في ليلة أخرى، وقبل أن أجد الحفرة، استيقظتُ على شعور غريب، كأن عينين مفتوحتين في العتمة تحدقان بي دون أن أراهما. الهواء كان ساكنًا إلى حدٍّ يبعث على القلق، والصمت لم يكن صمتًا، بل كان أنفاسًا محبوسة في الظلام، انتظارًا لشيء لم يُولد بعد. وعندما نزلتُ إلى الحديقة الخلفية، وجدتُ الحفرة، في مكان لا يخطر ببال أحد، حديثة الحفر، لا تتعدى سنتيمترات قليلة، مبللة من أطرافها، كأن يدًا صغيرة قد نشبت فيها من أعماق الأرض. في عمقها ثقبٌ أسود يبتلع الظلام كما يبتلع البحر كل شيء. حاولت أن أتمالك نفسي، مددتُ يدي نحو التربة، لكن شعورًا قديمًا كان يتعاظم داخلي، فقررت في لحظة فارقة ألا ألمسها، مما جعلني أبتعد.
أردتُ أن أوقظ زوجتي، أن أخبرها أن كل ما كنا نخشاه قد حدث، أن تلك الحفرة الصغيرة لم تكن مجرّد صدفة، وأن صوت الطرقات والظلال التي سكنت الزوايا لم تكن سوى ملامح وجهٍ آخر نجهله بقدر معرفته بنا جيدًا.
لكنني لم أفعل.
في الصباح، لم أجرؤ على إخبار زوجتي. نظرتُ نحو المكان، بدت الحفرة أكبر بقليل مما كانت عليه، وقد تجمّع الغبار حولها في كومة واحدة من الرمل الناعم.
لم أعد أحاول إغلاقها.
ظللتُ واقفًا هناك، أرى ظلالًا كثيفة تتشابك وتتمدد بأنفاس باردة كأنها خارجة من فم قبر، وبرهةً بعد أخرى، تتلاشى في العتمة، حتى اختفت تمامًا.
في تلك الليلة، لم أنم. استيقظتُ على يدٍ صغيرة تمسك قدمي. لوهلة شعرتُ برجفة تعبر عظامي. تجمّدت أطرافي من هول المفاجأة. أحسستُ بالهواء أثقل من العادة، وكل شيء في الغرفة كان غارقًا في جوف بئر مظلم.
فتحتُ عينيّ على اتساعهما. كان جالسًا أمامي عند حافة السرير، يراقبني بصمت. لم يكن طفلي الذي دفنته. لم يكن ذلك الجسد الصغير الذي كان مسجي أمامي، كفَّنته، وواريته بيديَّ الاثنتين وأصابعي العشر.. في ذلك العراء البارد. رمش ببطء شديد، ثم أمال رأسه جانبًا كما لو أنه يحاول تذكري، أو ربما، كما لو أنه لم يعد يعرفني.
كان جلده رماديًا، شاحبًا، كأن التراب قد تسلَّل إلى قلبه وامتصَّ عروقه. عينان غائرتان تبتلعان الضوء. كنتُ أفتش عنه في تلك النظرات العائمة في فراغ بهيم. لم أعرفه.
ارتجفتُ وأنا أراقبه. كانت يده ممدودة، تشير إلى فمه. في البداية، لم أفهم، ثم أدركتُ: إنه جائع.
ركضتُ مسرعًا، سكبتُ الحليب في كوب صغير ووضعته أمامه، لكنه لم يتناوله. ظلَّ يحدق ساكنًا.
لم يكن هناك أثر للطفل الذي أعرفه، غير الهواء البارد من حولي، الذي بدأ يتكاثف بثقل، كأن الجدران قد أطبقت على صدري.
وعندما همس باسمي، لم يكن صوته كما كنت أتذكره. كان صوتًا آخر، مزيجًا من أصوات متداخلة، يشبه صوت الأرض نفسها، قديمًا، مشوهًا، كأنه أتى من مكان آخر لا تدركه الحواس.
وفي تلك اللحظة، عرفتُ. لم يكن هو. كان شيئًا آخر، تشكَّل من العتمة والرطوبة والليل، خرج متآكلًا من عمق الظلام البهيم، ليطلب شيئًا، وللمرة الأولى أدركتُ أنه لم يكن جائعًا. بل كان يبحث عن شيء أعمق… شيء لا أستطيع حتى تخيله.
وعندما استدرتُ للحظة، لم يكن كما تركته هناك. مدَّ يده نحوي ببطء شديد، أقرب مما كان عليه قبل ثوانٍ قليلة فقط… وكأنني لم أعد أنا أيضًا كما كنتُ سابقًا.