لصحيفة آفاق حرة
(قذيفتان وزيتونة)
قصة قصيرة
بقلم. فضل أحمد الأشقر
بصوت ضعيف يصاحبه السعال: زهرة، أين أنتِ يا زهرة؟
-هنا، هنا يا أبي، أسقي الزيتونة، آتيكَ حالاً
-الله يرزقني بقدر سقايتك لهذه الزيتونة!، نملك الكثير من الأشجار غيرها لكنكِ تسقينهم بلا رغبة وعلى عجل!، أعرف ماذا ستقولين: زيتونتي ورفيقتي المدللة!.
قالها الأب وهو يقلّد صوت وحركات ابنته بسخرية..
-نعم يا أبي، لقد انتهيت وصرت الآن في خدمتك ..
-ألم يتصل فرحان اليوم ؟ النقود شارفت على النفاد، والمائة دولار التي يرسلها من ألمانيا أيظن أنها ستكفينا عاماً كاملا ؟!، ماذا أصاب هذا الجيل، وكأنهم عصافير متى قويَ جناحُهم غادروا العش ولم يلتفتوا لمن وراءهم!.
-أبي، هداك الله، فرحان أصبح صاحب عائلة وعنده مسؤوليات كثيرة، وكل فترة يرسل ما يزيد عن حاجة أسرته، أعانه الله.
-تدافعين عنهم جميعاً!، هذه عادتك ولن تغيريها.
-أيُّ جميع!، وهل بقي منهم أحد، أمي ماتت قهراً على عمر الذي قتله الجيش عند اقتحام القرية، وعلي استشهد في معارك التحرير، وندى تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى تركيا هرباً من القصف المتواصل على قريتنا، الناجي الوحيد هو فرحان، وهل بقي لنا أحد بعد الله إلّا هو!؟.
تبلع ريقها وتضغط على أنفها بشدة فقد ملّت البكاء على فراق الأحبة..
الأب متجاهلاً الموقف يضع يده على كتفها ويبادرها بابتسامة حنونة قائلاً:
ما أخبارُ زيتونتك؟
-عشرون عاماً وأنا أرعاها، أسقيها وأحفر التربة حولها وأضع لها السماد وما زلت تسألني هذا السؤال يومياً!.
-آخ يا غاليتي، وهل بقي شيء في هذه الحياة له طعم، القرية شبه مهجورة، معظمهم نزحوا وتركوا زيتونهم وبيوتهم وذكرياتهم، أنت وزيتونتك الغالية؛ المؤنس الوحيد لما تبقى لي من العمر.
-حبّاً بالله يا أبي
تعرفني أخاف من سيرة الموت، وأعرف أنك لن تتركني وحيدة.
-لستِ وحيدة، معك زيتونتك وطوق أمك رحمها الله، وبندقية علي تقبله الله، أنت قوية وجميلة كزهر الرمان،.. يتنهد ويتابع: لو أنك قبلتِ بابن عمكٍ أحمد لكان لكِ ستراً، بالرغم من أنه أميّ ولكنه شجاع وكريم والأهم إنه من لحمك ودمك.
-لا تفتأ تذكرني بهذه القصة!، تزوج الرجل وأنجب الأولاد وهو سعيد وأنا أحبه وأحترمه ولكن الزواج قسمة ونصيب.
وتشيح بناظريها بعيداً للأفق وتتزاحم الصور والذكريات لشاب وسيم بثياب الجامعة يتأبط كراسة ويحمل بيده وردة جورية يشمها ويلقيها على عتبة باب الدار ويتابع مستقبلاً شمس الصباح ومودّعا قريته إلى حين.
يقطع حبل الذكريات هدير مروحية في الجو، يرافقها صوت مكبرات المساجد: مروحي براميل، مروحي براميل والتنفيذ على القرية، فتسرع زهرة لتختبئ تحت الدرج، فهي مذ كانت طفلة لا تشعر بالأمان إلّا هناك، وخاصة عندما يلعبون الغُميّضة،.. يأتيها صوت والدها أثناء خروجه ليرى أين ستقصف هذه المرة: لا تخافي لا تخافي، وهو يردد اللهم اكفناهم بما شئت وأنى شئت وتشاء.
-لا تخرج يا أبي، ألن تترك هذه العادة!.
-لا أستطيع، أريد أن أعرف مكان التنفيذ، ولربما أساعد في الإسعاف قدر الإمكان، أو ربما ألحق بأخوتك فقد اشتقت إليهم كثيراً،.. ويمسح عينيه بطرف منديله الذي يشمخُ فوقه العِقال.
-لتقصف أين تشاء، معظم البيوت مهجورة ومن بقي حفر ملجأً يقيه شر البراميل، نحن فقط بقينا بلا ملجأ!، أعرفك تكره العتمة والأماكن المغلقة وترفض النزول إليها.
-نعم، أخاف من الأماكن المغلقة وأحب أن أموت تحت الشمس وأنا أتنفس الحرية، ولن أعطي هذا النظام المجرم نشوته عندما يرانا مذعورين كالفئران، خسئ وخاب.
صوت صفير البرميل يخبر الجميع بأنه الموت المرسل إليهم من طاغوت الزمان، الكل يراه باتجاهه لا محالة، فيسرع من بقي للمراقبة للاختباء قبل الاصطدام والكارثة، لحظات ويدوي محدثاً هزة أرضية بالمكان، لم يعد هناك زجاج في النوافذ ليسقط، وليس هناك كهرباء في الأسلاك المتدلية من فعل أخوته الذين سبقوه، يهرع الشباب لتفقد مكان السقوط وتتعالى الأصوات: على سلام هذه المرة، ليس هناك أضرار، لقد نزل بالقرب من دار مدير المدرسة وأجهز على أطلالها المتبقية.
دقائق ويهدأ روع الجميع، تسارع زهرة لزيتونتها لتخبرها برسالتها اليومية إلى المجهول معنونة دائما بنفس العنوان؛ رسالة إلى القلب:
أيها الحلم الجميل انتظرتك مع شفق آخر غروب ربيعي، لم تأتِ وتأكدت الآن بأن خطبتك على زميلتك بالجامعة لم تكن محض افتراء كما أخبرتني سابقاً، لن أكرهك أو أحقد عليك، لقد علّمتني زيتونتي فقه العطاء بلا مقابل، وأن كلما زادت الضغوط زاد نقاء الزيت، والزيت البكر دواء وغذاء ونور وضياء، اقتنعت بأن دوري بالحياة دعامة للآخرين، بقائي في الظل لم يوهن عزيمتي بأداء دوري في الحياة، أبرّ بوالدي وبالرغم من أني لم أتزوج فلقد أنجبت من رحم الأرض زيتونة، وربيتها على الكرامة والشموخ لتراها تطاول بعنقها سور الحديقة لتبقى مطلعة على أحوال الناس، ولتستقبل أول شعاع وأول نسمة وأول قطرة مطر، وهذا حلمي قد حققته زيتونتي البكر، فهي ليست هامشية كما اتهمتني وليست ثانوية كما كان يروق لك أن تناديني، بل هي في الطليعة بكل شيء، وجذورها قوية وفروعها تنثر الخير الوفير،.. لا أعرف لماذا أحسّ بأنها الرسالة الأخيرة، وستبقى ذكراك مؤلمة ولكن بلا ضغينة، وسلامي لمن أعطيتها مشاعرك التي أنضجتها لك بدفء قلبي، لك الدعاء بالخير ولي غصة في القلب وذاكرة ممتلئة بالحنين.
-زهرة، يا زهرة
-نعم يا أبي
-جهزي لي الحمّام، وثياب نظيفة، واعدت أبا مصطفى للذهاب معه لبيت عمتك، أشتاقها وأبو مصطفى عنده عمل بقريتهم، ينهي عمله نتغدى عند عمتك وقبل المساء نعود إن شاء الله، هل تريدين شيئاً من هناك؟.
-سلامي للعمة فأنا أيضاً أشتاق رؤيتها، حاول أن تقنعها بالمجيء لتقضي بضع أيام عندنا.
-إن شاء الله، سأحاول جاهداً
-لا تنس أن تأخذ معك ثوباً من ثياب أمي لعمتي، فهي تحب الهدايا وتفرح بها
-أبشري أنت وعمتك، وكم زهرةونذهب عندي أنا!؟
-اثنتان أنا وعمتي زهرة.
يضحكان، وتجهز الحمام لوالدها وبعد الانتهاء يذهب مع صديقه باتجاه قرية العمّة.
بقاء زهرة لوحدها والقرية شبه خالية فرصة ذهبية لممارسة عاداتها الطفولية، تلبس ثوب العروس الذي تركته أختها وقت هاجرت، كما تركت كل متعلّقاتها من ثياب وزينة ومواد تجميل.
تلبس ثوب العروس وتتزيّن بشكل طفولي مبالغ فيه، وتنتعل الحذاء ذو الكعب العالي وتضع الطرحة وتفرغ ما تبقّى من زجاجات العطر وتخرج تمشي الهوينى بغنج متمايلة تزف نفسها، تغني تارة وترقص تارة وتقترب من زيتونتها فتحتضنها لتودعها بشكل مسرحي، وتمسك الأغصان المتدلية تراقصها فتتساقط الأوراق عليها كفرسان العهد القديم المكللين بالغار عند عودتهم منصورين، في خضّم فرحتها تنسى نفسها وتعيش حلمها بكل تفاصيله الجميلة، تصدح مكبرات المسجد بنداءات التحذير: حربي مذخر باتجاه القرية، يرجى الحذر، ولكن زهرة تمارس طقوسها الأنثوية وهي خارج السمع، تقتحم الطائرة الحربية أجواء القرية بغضب وتمارس ألعابها البهلوانية في سماء القرية معلنة سيطرتها على . تنفذ حركات دائرية وتنقضّ وتقلع نافثة حقدها الأسود بشكل مرعب، ولكن لا شيء يرهب زهرة فهي عروس أحلامها وضوضاء الحفل غطّى على كل النداءات، تُطلق الطائرة صاروخين باتجاه القرية، صفير الصواريخ المرعب يوقظ زهرة من حلمها بغتةً، تحتضن جذع الزيتونة بقوة لتصبح جزءاً منه، يصطدم الصاروخان بالقرب من الزيتونة، الانفجار هذه المرة غير مسبوق بضراوته وقوته، الدار تتحول لسحابة من الغبار تعلو في السماء، وكأن الطائرة أتت فقط لتفسد عرس زهرة وتغادر!، هبّ رجال القرية لبيت زهرة، تعالت الأصوات، ضجيج الرجال ملأ صحن الدار، والكلّ يصرخ: أين زهرة وينقشع الغبار، البيت اختفى بما فيه، والزيتونة تقطعت أوصالها ولم يبق إلا الجذع واقفاً يلفه السواد، بدأ الرجال برفع الأغصان بحثاً عن زهرة، ومع كل حطام غصن يرفعونه تتضّح الصورة أكثر، ومع آخر غصن يظهر المشهد الأخير جلّياً:
زهرة بثوب العرس الأبيض لم يُدنس ويُشع بالنقاء، ملقاة تغطيها بعض الأوراق وترتل بخشوع:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ويقف أهل القرية بخشوع، ويقول أكبرهم لبعض الشباب:
اذهبوا لإحضار والد زهرة وأخبروه بأن زهرة تنتظره تحت ظلال الزيتونة.
…..
سوريا