لآفاق حرة
تشابكٌ حُلُميّ
بقلم. د. عبير خالد يحيى. سوريا
1
على إيقاع الهلع ترقص قدماي اللّتان بتُّ أشكُّ أنهما تنتميان إلى جسدي….!
جسدي الذي هربتْ منه رصانتُه، كما هربتْ من وجهي ملامحُه، بعد أن قضمَ الخوفُ قلبي…!
قلبي الذي كان حكيمًا فأرسل دمَه إلى الساقين تهريبًا، متواطئًا مع عقلي الذي ألقى حمولاته في مهبِّ الريح، وأمرٌ وحيدٌ لا غير أطلقه عقلي إلى أطرافي السفلية : اركضْ….!
متناسيًا رئتَي اللّتين تجاهدان للبقاء على قيد التنفّس، ولو بشهيقٍ مسروقٍ وزفيرٍ مجنون، وصورٌ تلطمِ ذاكرتي كي تستفيق على رعب اللحظة، طرقٌ شديدٌ على طبلة مسمعي جعلني أهبُّ لأبدأ سباقًا لم أخترِ الاشتراك به بحالٍ من الأحوال، إنذارٌ تبرّعتْ به المرأةُ العجوز التي تسكنُ الطابقَ الأخيرَ في بنايتنا التي تعتلي تلّةً عالية نسبيًّا في حيّنا المكتظّ بالبنايات المتلاصقة، جارتُنا العجوز – والتي تدّعي أنّها نصفُ صمّاء- تتّخذُ من شرفتها مرصدًا، ترى منها سيّارات زوّار الفجر وهي تدخل الحي بدون أضواء، تتهدّجُ بخفوت…!
تطلقُ العجوزُ صوتَ التلفزيون على آخره في هدأةِ الليلِ الذي يغرق عميقًا في غفوتِه قبل أن يستعدَّ الفجرُ للنهوض، مفسدةً على المتسلّلين بهجةَ المباغتة، حدسٌ كبيرٌ كان قد استحوذَ عليّ بأنني سأكون أنا الغنيمةُ هذه الليلة، نمتُ بكامل جاهزيّتي، بدلةٌ رياضية قطنية سميكة، وحذاءٌ رياضي ابتعته من صديقي الذي أقسم لي أنه (ماركة- براند) أصلية أتى به من الصين، كنتُ قد جرّبته في عدوٍ سريع فكانت النتيجة مدهشًة، أستغرب من نفسي…! كيف أسردُ هذه التفاصيل السخيفة في هذه الظروف المحفوفة بالخطر؟! هل جُننتُ؟! وعقلي فعلًا قد تفلّت من عقاله؟! أم أنها حلاوةُ الرّوحِ عندما يعزُّ عليها الخروج من جسدٍ يستهويها ؟! لن أستطيعَ الوصول إلى بوّابة العمارة، لقد وصلوها قبلي، اضطررتُ للصعود إلى السطح، من الغباءِ أن أختبئ، حتى في خزّان من الخزّاناتِ المتناثرة هناك، كنت قد سمعتُ بقصصٍ كثيرة تروي كيف كانوا يطلقون الأعيرةَ النارية على خزّانات الماء إذا شكّوا باختباء أحدٍ في داخلها، فتصبحُ مثقّبةً كالغربال، سمعتُ جارتَنا العجوز، وقد فتحتْ بابَ شقّتها، تدعوهم لشرب الشاي، فعرفتُ أنها تحاول أن تلهيهم حتى أتمكّن من الهربِ إلى سطح البناية المجاورة، وأحدُهم يصرخُ فيها:
-“ادخلي إلى شقّتكِ حالًا، هل رأيتِ أحدًا يصعدُ إلى السطح؟”.
تجيبُه وقد رفعتْ صوتَها كثيرًا :
-“ماذا تقول؟ عَلِّ صوتَك أنا لا أسمع، تفضّلوا واشربوا الشاي”.
الذي خمّنتُه، أنّه تخطّاها، لأن وقع خطواتٍ كثيرة سمعتُها تصعدُ باتجاه السطح، كنت قد قفزتُ إلى سطح البناية الملاصقة وبدأتُ سباقَ الرعبِ كالراقص على صفيح ساخن، تتصاعدُ من فمي وأنفي وعينيّ أدخنةُ الاحتراق، لا تسألوني ماذا يريدون منّي لأنّي لا أملك الإجابة، ولا أعرف مَن هم! ولا أعرف ما أهمّيتي عندهم! فكلّ مَن سبقني بذاتِ التجربة لم يرجعْ ليخبرَني، ولكنّي أخمّن أنهم ذهبوا إلى مكانٍ لا عودةَ منه، قد يكون مثيرًا ومدهشًا، لكنني لا أحبّ الغرابة ولا التجربة، صوتُ خطواتهم تطلقُ على قدمي سياطًا جالدة، فأجري مسابقًا خيالاتي، إلى أن وصلتُ إلى حافّةٍ تفضي إلى فراغٍ بين عمارتين( وجيبة)…
أُعاني من رهاب الأماكن المرتفعة، كابوسٌ رافقني مذْ كنتُ طفلًا، يجمدُ الدمُ في عروقي كلّما هاجمني، أبكي بهلع، أرى نفسي أحضنُ قوسًا في قنطرة شاهقةِ العلو، لا يجاورُ قوسَها أيُّ جدار، فقط عمودان شديدا الارتفاع عليهما قوسٌ أعتليه ناظرًا إلى الأسفل فلا أرى إلّا الظلام.
هل عليّ أن أقفزَ هربًا من مهاجميَّ لأقعَ في جُبِّ هلعي؟ آاااااااااااااااااااااااااااااااه …!
2
لم أتصوّرْ في يومٍ من الأيام أن أكونَ أحدَ زوّارِ الفجر الذين يخافُ الناسُ من مباغتاتِهم، قضيتُ فترةً طويلة من خدمتي بالعمل من وراء مكتبي، لم نعهدْ في عملنا مداهمات، كما أن الاعتقالات لم تكن من ضمن مهمّاتنا، نعملُ على ضمانِ الأمنِ ضمنَ أوامرَ نظامية مدعومة بالقوانين، إلى أن اختُرِقَتِ البلادُ بقلقلاتٍ هزّتْ دعائمَ أمنِها، فكان لزامًا على الجهات الأمنية العليا أن تستنفرَ فارضةً قوانينَ طارئة تتيح لها أن تتصرّف بمطلق السلطات المتاحة للحفاظ على أمن البلاد والعباد، تغيّرتْ المهمّات والأولويات، وبمقتضى الحال، وجدتُ نفسي أترأّسُ دوريّاتٍ للمداهمة عند الشكّ بوجود خليةٍّ إرهابية، عند ورودِ تبليغاتٍ عن ذلك، لم تكنْ كلُّ التبليغات صحيحة، لكن كان لابدّ لنا من أخذِ أيّ تبليغٍ على محملِ الجدِّ بالدرجة الأولى، وإلى أن يَثبتَ العكس، كانت التحقيقاتُ تأخذ مجرىً قد يطول، آكلًا من عمرِ المشتبهِ به وقتًا ليس بالقصير، كنتُ أموتُ خجلًا وقهرًا وأنا أرى أمًّا أو زوجة أو أختًا أو ابنةً ترتمي عند قدمي مقبّلةً حذائي برجاءِ أن أتركَ ابنَها أو زوجَها أو أخاها أو أباها، كنت أعرّجُ على بيت أمي، أرتمي في حضنِها ماسحًا بثوبها قطراتِ دمعٍ تفرّ رغمًا عنّي، ثم أعودُ إلى بيتي، أحضنُ زوجتي وبناتي، وأعتزلُ في غرفتي، أُودِعُ مخدّتي دموعًا مخنوقة، تعاظمَ الأمر عندي في كلِّ مرّة أترأّس دوريّةً من تلكَ الدوريات، وصلتُ إلى مرحلةٍ كنتُ أبقى فيها بالسيارة، وتقومُ عناصرُ الدورية بالعمل، مكلِّفًا أحدَ العناصرِ بالرئاسة نيابة عنّي، إلى أن وشى أحدُ المغرضين بي إلى رئيسي المباشر، صدرَ بحقّي توبيخٌ مسجّل، فتقدّمتُ بطلبٍ رسميٍّ بإعفائي من عملي، والحصول على تقاعدٍ مبكّر، رُفِض الطلبُ في ظلّ الأوضاعِ السائدة، وقدّموني لمحاكمة بمذكّرةِ توقيف، إلى أن يصدرَ حكمُ المحكمة، كان هناك ادعاءٌ يُطالبُ بإنزال أقسى العقوبةِ بحقّي، كَوني مثالًا سيئًا يقدّم ضعفَهُ على واجبِه، لكنَّ الحكمَ كان مفاجئًا للجميع، تمّت ترقيتي، وحُدّدت مهامّي بأعمالٍ بسيطة تكاد تكون صورية، هذا الحكم أسعدني جدًّا، قضيتُ في فضائهِ السعيد عدّةَ أشهر، إلى أن جاءَ هذا اليوم الذي أحدّثُكم عنه الآن، كُلّفتُ بمأمورية من تلك المأموريات التي تنتهك (شجاعتي)، وتعبثُ برجولتي، فإذن، لقد انتهتْ أشهرُ العسلِ التي نَعِمتُ بها، وعدنا إلى سابقِ العهد، والأنكى من ذلك أنّ المأموريةَ كانت في حيّنا، تمشيطٌ لمعظمِ العماراتِ في الحي، بما فيها العمارة التي يقطنُ فيها أهلي، أمي وأخي الأصغر الأعزب، رفضتُ أن أنزلِ من السيارة، وكلّفتُ أحدَ العناصرِ بترأّسِ العمليةِ كعادتي، نظرتُ إلى العناصر الأربعة فقرأتُ على وجوههم خوفًا أصفرَ بصفار الموت، توجّست شرًّا، نظرتُ إلى السائق وجدتُ وجهَهُ يتصبّبُ عرقًا، ونحن في الفصل البارد! ترجّلتُ من السيارة كي أشجّعَهم على النزول، نزل الأربعة وتوجّهوا فورًا إلى إحدى العمارات، بقيَ السائق على مقعده، واتّكأتُ على بابِ السيارة أدخّنُ (سيجارة) أستدعي فيها سكوني.
فجأة! وجدتُني أطيرُ محمولًا على جناحِ ملاكِ الموتِ الذي اختار القعود على مقعدي باحتفالية انفجار! آااااااااااااااااااااااااه …!
سقطتانِ متوائمتانِ من حافتَي سريرٍ كبير، وصوتُ المرأة العجوز يعلو بالصراخ على ولدَيها:
-” متى تكفّان عن ارتياد نفسِ الكابوس كلّما اجتمعتما في ذاتِ السرير؟!”