كتبت ريما آل كلزلي. شبكة النرجس (قصة قصيرة)

لآفاق حرة

غمرتها سعادة لم تعهدها منذ زمن، فهي أخيرًا على أعتاب تحقيق حلمها الذي طالما راودها. عملها الجديد في المجلة بدا كتذكرة عبور لحياة مختلفة، حياة كانت تراها أقرب للحرية والإنجاز. أخبرته بحماس عن هذه الخطوة، تنتظر منه مشاركة فرحتها، لكنه استقبل كلماتها بابتسامة باهتة، أربكتهْا أكثر مما طمأنتها. سألها بنبرة هادئة: وهل تظنين أن العمل في مجلة سيضيف إليكِ شيئًا؟، حبيبتي أنتِ قاصّة محترفة، وهذه الوظيفة ستعوق إبداعك.
في هذا المساء، بدأ النقاش يتحول إلى صراع، كلّما حاولت أن تثبت رأيها، دحرج أمامها العقبات، تصاعدت حدة الكلام، حتى انتهى بانفجاره غاضبًا. غضبهُ قلب كل شيء حولهما، قابلته وهي تحاول أن تخفي عنه حزنها الذي تسرب إلى عينيها. تلك الليلة شعرت أنها تخسر حلمها، وتخسر نفسها أكثر.
جلست في تلك الغرفة الباردة، تتثاقل اللحظات في مرورها كأن هناك ما يعترض عقارب الساعة على الدوران. ضوء المصباح الخافت يغفو على وجه مرآة مكسورة، وشظاياها تعكس وجهًا مشوّهًا بالكاد تعرفه. حاولت أن تهرب من صدى صراخه الذي التصق بالجدران، فكان الكتاب المفتوح على الطاولة مرساها الوحيد، يذكرها بما كانت عليه قبل أن تذوب في ظلّه. كأنه يطمئنها بأنها قادرة على كتابة فصول جديدة. النافذة قربها تطل على شارع صاخب، لكن الغرفة برغم الصمت الذي يحتويها كانت فارغة إلا من صدى كلمات لم تعرف لها مبررًا.
لم تكن هذه هي الحياة التي تحلم بها، كانت أشبه بمسرحية يومية، وتذكرة مدفوع ثمنها مسبقًا بمقايضة آثمة. كلما حاولت أن تخرج من النص، أعادها إليه، فهو الكاتب والمخرج والجمهور الذي يصفق لنفسه.
بينما كانت تغرق في شرودها، كسر الصمت الذي أحاط بها صوت ارتطام كأس الماء بالأرض، وكان قربه ظل كرسي يهتز بهدوء حتى بعد أن غادر صاحبه. علقت رائحة عطره الثقيلة بالمكان فكادت أن تخنق أنفاسها.
نظرت إلى حقيبة صغيرة نصف مفتوحة كانت في زاوية الغرفة، كما لو كانت تترقب هروبًا كسيحًا. وحدها الجدران كانت تعرف القصة، تحفظها في صدوعها العميقة. لم يكن هذا سجنها الذي اعتادت فيه أن تفقد حريتها. كان هناك وقت شعرت فيه أن العالم بدأ يتلوّن من جديد، حين دخل حياتها مثل نسمة دافئة في ليلة شتوية قاسية. كان صوته هادئًا، كهمسات القدر التي تملأ فراغ روح ينهشها الفراغ. ابتسامته ارتسمت مثل منارة مضيئة في بحر هائج، وكلماته انسابت كالماء العذب على قلبها المُنهك. في أول لقاء” أنتِ مختلفة” قالها بنظرة عميقة، كأنه اكتشف شيئًا لم يعرفه سواه.
كان يعرف كيف يتسلل إلى أعماقها دون أن تشعر، وكيف يلمس جروحها القديمة دون أن يؤلمها. ومع الوقت بدأت تصدق أنه الوحيد الذي يمكنه أن يراها كما هي. لم تكن تعرف آنذاك أن بعض الرجال بارعون في ارتداء الأقنعة.
في بادئ الأمر، كان منقذها، ولا يشبه أي أحدٍ ممن عرفتهم، فتح لها أبواب السعادة، وصنع عالمًا من كلمات حب لم تسمعها قط. كان يعرف كيف يلتقط ضعفها كصياد محترف، ويغزل من حزنه المفتعل مرآة تعكس عذاباتها الممضّة، فيُجبرها على تصديق أنهما روحان ضائعتان وجدا بعضهما أخيرًا.
كل شيء معه بدا كأنه حلم جميل، رسائل منتصف الليل الطويلة تخبرها عن أمنياته التي تبدأ وتنتهي عندها. غيرته في أبسط الأمور والتي فسرها أنها حب: ” لا أريد أن يؤذيكِ أحد. أنتِ لي وحدي.” صدّقت أنه الأمان الذي طالما حلمت به. لم تعرف أن هذا الأمان جمرات تنتظر حطب الاشتعال.
كانت يده تمتد لتخرجها من ظلامها، لكن اليد الأخرى كانت تحمل سلاسل، منتظرة اللحظة المناسبة لتقيدها. بدأت دائرة عالمها تضيق، أصدقاؤها ابتعدوا واحدًا تلو الآخر، وربما هي من أبعدتهم دون أن تدرك متى أو كيف حدث ذلك. كان يزرع الشكّ في عقلها بابتسامة هادئة: ” ألا تظنين أن صديقتكِ تستغلك؟” أو” أشعر أن عائلتك لا تتفهمك كما ينبغي”. مع الوقت، لم يتبقَ أحد في حياتها سواه، كان عالمها كله يدور حوله، مع ذلك كان يُظهر لها أن ذلك كأنه اختيارها.
كان يعرف كيف يطيح ثقتها بنفسها بلطفه المصطنع، وحين يقول:” أنتِ أجمل امرأة رأتها عيناي”، ينتقد في اليوم التالي طريقة لبسها أو كلماتها. حثيثًا يحاول أن يُشعرها أنها على حافة الكمال، لكنها لا تصل إليه أبدًا. صارت ترى نفسها بعينيه فقط، إذا قال إنها جميلة، شعرت بالجمال، وإذا انتقدها، شعرت بأنها غير كافية. صدّقت بيقين تام أنها بحاجة إليه لتكون كاملة. لكن مع كل خطوة تخطوها نحوه، كانت تخسر جزءًا من نفسها. وأن كل كلمة منه صارت كأنها خيطًا ينسج شبكة غير مرئية حولها. يضيّق عليها أسرها.
جلست منهارة، تحدق في شاشة هاتفها. فقد وصلت رسالته أبرد من الثلج: ” أعتقد أننا بحاجة لبعض الوقت لنستعيد توازننا. ربما هذا الأفضل لنا.” أغلق عنها أبواب حياته التي لا تعرف عنها شيئًا، تاركًا إياها في فراغ لا نهاية له. جلست في مكانها أكثر من ساعة لا تشعر بشيء حولها. وكأن الفراغ ابتلعها، وفي الوقت الضيق أدركت أن هذا الفراغ لم يكن بسبب غيابه. إنما في الطريقة التي جعلها ترى نفسها بها. أدركت أنه لم يحبها أبدًا، ولكنه أحب السيطرة عليها.
مرّ الوقت بطيئًا وهي تحدق في المرآة المكسورة، لم تكن ترى انعكاسها. رأت شظايا صورتها وهي تروي الحكاية عن امرأة تنفست الألم حتى ضاق صدرها، وآن لها أن تغادر.
مرّ أسبوع الصمت كما كان يخطط، وحين عاد، كان يحمل وجهه المعتاد، ذلك الوجه المليء بالندم. المكسو بالدموع المتوسلة، وكلمات ناعمة كالخيوط يريد أن يشدها بها من جديد: ” لقد كنت غاضبًا. أنت تعرفين أنني لا أستطيع العيش من دونك.” مد يده إليها، لكنه لم يكن يعلم أن يديها لم تعودا ترتجفان، فكلماته التي كانت تشعل فيها الشك والخوف، أصبحت الآن رمادًا يتناثر في الهواء.
نظرت إليه، ثم إلى حقيبتها الصغيرة: “لقد انتهى كل شيء”، قالتها بصوت ثابت وهي تخطو خطوة نحو الباب، برغم أن قلبها كان يخفق بشدة لكنها لم تتراجع. حملت حقيبتها وهو يحاول أن يستعيدها بكلمات الحب، والذكريات، والوعود التي لم يفِ بها. تلقاها الشارع وكان مزدحمًا، يضجّ بالحياة والأصوات التي سمعتها بوضوح، غادرت المكان وابتسامة ناعمة تتسلل إلى شفتيها.

………………
ريما آل كلزلي. سوريا

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!