لآفاق حرة
وجدَ شابٌّ حسَّاس نفسَهُ في مكانٍ مَهيب!
قلَّبَ عينيه في المكان، رأى رجلاً يكتب فوق طاولة. الرجل وقور، غامضُ العمر، كأنه عاش في كلِّ العصور!
-ماذا تكتب؟ (سألَهُ)
أجاب الرجل: أُسجِّل ما يجري في الدنيا، وهذا عملي.
تفكَّرَ الشاب، ثمَّ هتف:
– أنتَ الذي يُسمُّونه ……..؟
– نعم. أنا الذي يُسمُّونه ……..
صَمَتَ الشاب، سار خطواتٍ كأنه يهمُّ بالخروج، لكنه عاد قَلِقاً وفي شفتيه سؤال:
– قلتَ لي إنك تسجِّل، فهل ستسجِّل ما يجري في أرض العرب هذه الأيام؟
باقتضابٍ ردَّ الرجل:
– سجَّلتُ وانتهيت.
ما كاد الشاب يسمع الجواب حتى انقلبَ كيانه، أخذ يروح ويأتي في المكان، ويتمتم بكلام غامض، وحينما هدأ قليلاً سأل الرجلَ:
– بالله عليك سجَّلتَ؟ وهل كتبتَ عن….؟
– نعم كتبتُ عن…..
– يا لطيف. هذا عار.
– عار، ولكنْ لا دَخْلَ لي فيه.
– طيِّب. وتلك القصة الرهيبة التي جرتْ في مدينة …… هل كتبتَ عنها شيئاً؟
– عن تلك القصة الرهيبة التي جرتْ في مدينة ……. كتبتُ كلَّ شيء.
– الله أكبر. الأمرُ فضيحة تضع الرأسَ عند القدمين.
– فضيحتُكم أنتم. أنا لا شأنَ لي فيها.
– آه.. آه.. وما جرى على الحدود بين الدولتين المتجاورتين، دولة….. ودولة ….. هل أشرتَ إليه؟
رفعَ الرجل حاجبيه وهو يقول:
– وهل من المعقول أن يقع ذلك الحدث المدوِّي بين دولة….. ودولة…… ويبقى قلمي غافلاً عنه؟
أخذ الشاب يضرب بكلتا يديه على رأسه، ويتمتم:
– رحمتَك يا رب. انفضحنا.. انفضحنا.
ثمَّ أخذ يدور في موضعه، ويحكي مع نفسه، بينما غادرَ الرجل مكانَهُ، وجاء من خلفه ليستمعَ إليه، كان يقول:
– يا رب هناك ألفُ حكاية وحكاية ألعنُ وأسوأ وأقبح!
هناك ألفُ حادثة تُشيب الرأس!
ألفُ خبر مُزلزِل، ألفُ نبأ من هوله ينكسر الظهر! رباه هل تراه عَلِمَ بذلك أيضاً، وكتبَ عنه؟
جاء الرجل إليه من الأمام، قال:
– ولو. كلُّ ذلك صار سطوراً في أوراقي، أم تريدني أن أُقصِّرَ في عملي؟
يَبِسَ لسانُ الشاب، تهدَّلَت كتفاه، سار يائساً نحو الباب، لكنه عاد فجأة، انحنى أمام الرجل قائلاً:
– لي رجاء. أتوسل إليك، أبوس يدك.
– ما هو؟
– أن تمحو ما كتبتَهُ في الحال. آه.. أشعرُ أنَّ صفحاتِكَ صارت من أمامي ومن خلفي، فكيف أسير في الطريق؟! وكيف أنظر إلى وجهي في المرآة؟!
ضحك الرجل بوقار، قال واضعاً يدَهُ على كتف الشاب:
– سامحك الله تطلب مني خيانةَ مهنتي؟!
ثم أضاف بحزم:
– ما تطلبه مستحيل. حرفٌ واحد لا يمكنني شطبُهُ أو إزالتُه، وأنا أصلاً لا أستعمل الممحاة.
صار الشاب تمثالاً من ملح، سأل ذليلاً منكسراً:
– يعني ما فعلناه ثابتٌ علينا لا ينمحي؟
ردَّ الرجل وهو عائدٌ إلى طاولته:
– لا تسألني. اِفْهَمْها أنتَ بنفسك.
**